يا أختنا الغالية ..
ما سقت لك هذه القصة لأهيج عواطفك .. ولا لأستدر دمعاتك .. أو أستثير مشاعرك ..
كلا ..
ولكن لتعلمي أن لهذا الدين .. أبطالاً يحملونه .. يضحون من أجله ..
يسحقون لعزه جماجمهم .. ويسكبون دماءهم .. ويقطعون أجسادهم ..
ولئن كان كفار الأمس .. أبو جهل وأمية .. عذبوا بلالاً وسمية ..
فإن كفار اليوم لا يزالون يبذلون .. ويخططون ويكيدون .. في سبيل حرب هذا الدين ..
فاحذري من أن تكوني فريسة ..
وحتى تنتبهي لعزك .. فاعلمي أن :
أول من سكن الحرم .. امرأة ..
عند البخاري ..
أن إبراهيم عليه السلام .. انطلق من الشام .. إلى البلد الحرام ..
معه زوجه هاجر وولدها إسماعيل وهو طفل صغير في مهده .. وهي ترضعه .. حتى وضعهما عند مكان البيت .. وليس بمكة يومئذ أحد وليس بها ماء .. فوضعها هنالك .. ووضع عندهما جراباً فيه تمر .. وسقاء فيه ماء ..
ثم قفى عليه السلام منطلقاً إلى الشام ..
فتلفتت أم إسماعيل حولها .. في هذه الصحراء الموحشة .. فإذا جبالٌ صماء وصخوراً سوداء .. وما رأت حولها من أنيس ولا جليس ..
وهي التي نشأت في قصور مصر .. ثم سكنت في الشام في مروجها الخضراء .. وحدائقها الغناء .. فاستوحشت مما حولها ..
فقامت .. وتبعت زوجها .. فقالت : يا إبراهيم . . أين تذهب .. وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس به أنيس ولا شيء ؟
فما رد عليها .. ولا التفت إليها .. فأعادت عليه .. أين تذهب وتتركنا .. فما ردَّ عليها ..
فأعادت عليه .. وما أجابها .. فلما رأت أنه لا يلتفت إليها ..
قالت له : الله أمرك بهذا ؟ قال : نعم .. قالت : حسبي .. قد رضيت بالله .. إذن لا يضيعنا .. ثم رجعت ..
فانطلق إبراهيم الشيخ الكبير .. وقد فارق زوجه وولده .. وتركهما وحيدين ..
حتى إذا كان عند ثنية جبل .. حيث لا يرونه .. استقبل بوجهه جهة البيت .. ثم رفع يديه إلى الله داعياً .. مبتهلاً راجياً ..
فقال : " ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون " ..
ثم ذهب إبراهيم إلى الشام ..
ورجعت أم إسماعيل إلى ولدها .. فجعلت ترضعه وتشرب من ذلك الماء ..
فلم تلبث أن نفد ما في السقاء .. فعطشت .. وعطش ابنها .. وجعل من شدة العطش يتلوى .. ويتلمظ بشفتيه .. ويضرب الأرض بيديه وقدميه ..
وأمه تنظر إليه يتلوى ويتلبط .. كأنه يصارع الموت ..
فتلفتت حولها .. هل من معين أو مغيث .. فلم ترَ أحداً ..
فقامت من عنده ..
وانطلقت كراهية أن تنظر إليه يموت ..
فاحتارت.. أين تذهب !!
فرأت جبل الصفا أقرب جبل إليها .. فصعدت عليه .. وهي المجهدة الضعيفة .. لعلها ترى أعراباً نازلين .. أو قافلة مارة ..
فلما وصلت إلى أعلاه .. استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً .. فلم تر أحداً .. فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت بطن الوادي رفعت طرف درعها .. ثم سعت سعى الإنسان المجهود .. حتى جاوزت الوادي ..
ثم أتت جبل المروة فقامت عليها .. ونظرت .. هل ترى أحداً .. فلم تر أحداً .. فعادت إلى الصفا .. فلم تر أحداً .. ففعلت ذلك سبع مرات .
فلما أشرفت على المروة في المرة السابعة .. سمعت صوتاً فقالت :
صه .. ثم تسمعت ..
فقالت : قد أسمعت إن كان عندك غواث فأغثني .. فلم تسمع جواباً ..
فالتفتت إلى ولدها ..
فإذا هي بالملك عند موضع زمزم .. فضرب الأرض بعقبه أو بجناحه حتى تفجر الماء ..
فنزلت إلى الماء سريعاً .. وجعلت تحوضه بيدها وتجمعه ..
وتغرف بيدها من الماء في سقائها .. وهو يفور بعد ما تغرف .. فقال لها جبريل : لا تخافوا الضيعة .. إن ههنا بيت الله يبنيه هذا الغلام وأبوه ..
فلله درها ما أصبرها .. وأعجب حالها .. وأعظم بلاءها ..
هذا خبر هاجر .. التي صبرت .. وبذلت .. حتى سطر الله في القرآن ذكرها.. وجعل من الأنبياء ولدها .. فهي أم الأنبياء .. وقدوة الأولياء ..
هذا حالها .. وعاقبة أمرها ..
نعم .. تغربت وخافت .. وعطشت وجاعت ..
لكنها راضية بذلك مادام أن في ذلك رضا ربها ..
عاشت غريبة في سبيل الله .. حتى أعقبها الله فرحاً وبشراً ..
وطوبى للغرباء ..
فمن هم الغرباء .. إنهم قوم صالحون .. بين قوم سوء كثير ..
إنهم رجال ونساء .. صدقوا ما عاهدوا الله عليه ..
يقبضون على الجمر .. ويمشون على الصخر ..
ويبيتون على الرماد .. ويهربون من الفساد ..
صادقة ألسنتهم .. عفيفة فروجهم .. محفوظة أبصارهم ..
كلماتهم عفيفة .. وجلساتهم شريفة ..
فإذا وقفوا بين يدي الله .. وشهدت الأيدي الأرجل .. وتكلمت الآذان والأعين .. فرحوا واستبشروا ..
فلم تشهد عليهم عين بنظر إلى محرمات .. ولا أذن بسماع أغنيات ..
بل شهدت لهم بالبكاء في الأسحار .. والعفة في النهار ..
حتى إنهم يفدون دينهم بأرواحهم ..