عرفته بعد دقائق من وصولي إلى مكَّة المكرَّمة، دلَّني عليه أوَّل من لقيته من الطلبة الوافدين حين عرف أنني من جمهوريَّة رواندا. كانت الدَّقائق الأولى للقائنا شديدة الوطأة على نفسي؛ توجُّساً منه، كان يأسرني رغم حاجتي إليه في تلك اللَّحظة، حيث بشاشته في وجهي، واحتفاؤه بي. كانت أسئلته الكثيرة عن الصَّيحات العصبيَّة بين قبيلتَيْنا تزيد من وطأة الإحراج، فقد كان ينتمي إلى قبائل الهوتو وأنا أنتمي إلى الأقليَّة التوتسي.. قبيلتان قيل: إنَّهما عدوَّتان منذ الأزل! وكأنَّ ربّاً واحداً لم يخلقهما. ناوَلني شيئاً من الكعك ومن حليب بارد، قال: هيَّا لنبدأ بالبيت. وفي الحرم كان هو مطوِّفي ودليلي في هذا المكان المفعم بالجلال، وفي المسعى بدا بقامته الفارعة وخطواته الواسعة كأنَّه في هرولة مستمرَّة بين الصَّفا والمروة، سبعة أشواط خضتها وأنا أعدو خلفه في سباق ماراثوني حقيقي. وبعد عودتنا إلى السَّكن الجامعيِّ بالعزيزيَّة خلدت إلى نومة كأنها أطول من نومة أصحاب الكهف. استيقظت بعدها على روائح أطعمة مصفوفة وسط غرفته الصَّغيرة ومجموعة من الطَّلبة الذين أتوا لتهنئته بقدوم «أخيه الصَّغير». وعاتبه أحدهم: - هيهْ! أكنت تخفي عنَّا قبول أخيك بالجامعة؟ - معذرة، لم تكن الأمور محسومةً تماماً هنا وهناك. التفت إليَّ ساخراً، وقال: - هاها.. إنه ولدٌ مهذَّب، أبشروا فلن تنزعوا منه كلمة واحدةً عن سوالف أخيه الأكبر. ضحكاتٌ أتبعناها بالهجوم المكثَّف على كتيبة الطَّعام المصفوف، وعرفت فيما بعد أن من أسمائها: الكبسة، والدَّجاج المحمَّر، والزَّبادي، والشَّاورما، والكفتة، والزَّيتون. ومنذ ذلك اليوم ومنذ السَّاعات الأولى لقدومي إلى مكَّة المكرَّمة؛ لم يشكَّ أحدٌ في أنني وكالوشا أخوان شقيقان قد ولدتنا وأرضعتنا وفطمتنا أمٌّ واحدة، وساعد في تصديق هذا الزَّعم ملامحُ وراثيَّة مشتركة بيننا من بشرة سمراء فاتحة، وقامة فارعة مثل شجر الباوبابْ الاستوائي، وعضلات مفتولة تشعرك بعمالقة في رفع الأثقال بما فيها الفيَلة الإفريقيَّة الضَّخمة. وبعد تخرُّجه في علم الاقتصاد الإسلاميِّ عاد إلى الوطن ليتابع العمل في تجارة الماس والعاج. وهي مهنة ناجحة لدى أفراد عشيرته. وكان يستحثُّني على الإسراع بالتَّخرج واللِّحاق به في الأعمال. وبالفعل لحقت به بعد التَّخرُّج على استحياء برأسمال زهيد لا يغني شيئاً في تجارته الرَّائجة ذات رأس المال الكبير. وسرعان ما أثارتْ تلك العِشْرةُ والأخوَّة استغراب النَّاس وسخريّتهم. وكان بعضُهم يتأفَّفُ قائلاً: - أمعقــول؟! سبحان الله شخصان: توتسيٌّ وهوتــوِيٌّ يتــآخيان ويجتــمعــان؟! أما أفراد عشيرتي التوتسي وإخواني الأشقَّاء فكانوا يحذرونني منه: لا تأمن اثنين ما حييت: الدُّنيا والهوتو! مَثَلٌ قديمٌ كانوا يردِّدونه على مسامعي. ومنذ الأيام الأولى من نشوب الحرب القبليَّة بين قبيلتَيْنا كان أخي قد أقنعني بعد جهد جهيد بضخِّ جميع رأسمال الشَّركة في شراء العاج والاحتفاظ به في مكان آمن.. قال: بهذا سوف نؤمِّن على أموالنا، فمن يدري لعلَّ العملة المحليَّة هذه تُلغى من التَّداول بفعل الحرب الطَّاحنة. وكان رأيي أن نحوِّل الأموال إلى بلد آخر؛ لاستثمارها هناك، لكن ذلك لم يكن في الحقيقة صائباً. وأخيراً لم يكن بدٌّ من الإذعان لرأيه.. كميَّة كبيرة من العاج اشتريناها بسعر زهيد وسط استغراب التُّجار ودهشتهم في وجه هذا الفنِّ الجديد من الجنون والخبل. وفي مخزن الشَّركة حفرنا - نحن الاثنين - حفرة، وأفرغنا في أرضيَّتها ترسانة من الإسمنت المسلَّح، وبنينا فيها جداراً من البلاط، وبإحكام وضعنا فيها صناديق العاج، وأقسَم لي أخي الأكبر أنَّه لا يعلم بهذا إلاَّ الله ونحن الاثنان. - هكذا سنستخرج كنْزنا بعد الحرب إن شاء الله، دون أن نخسر شيئاً.. وحتماً سوف يزداد الطَّلب على العاج بعد الحرب! قال ذلك وهو يربِّت على كتفي، ويلقي ببعض الأحجار فوق الحفرة، بعد أن ردمنا فوقها لإخفاء آثارها. وفي الأيام الأولى من الحرب، والإبادة الجماعيَّة على قبيلة التوتسي؛ غَدَت دار أخي الأكبر مأوى ودار أمان للاَّجئين الفارِّين من الميليشيات المتهمِّجة، والقتَلة الوحشيِّين.. وفي ذات ليلة حين كانت طلقاتُ المدافع والبنادق الرَّشاشة تطنُّ في كلِّ اتِّجاه من العاصمة مثل طنين أسراب نحل، وصيحاتُ الاستغاثة تعلو على نباح الكلاب المسعورة؛ افترقنا شذرَ مذرَ دون وداع، ونجا كلُّ فرد بجلده، وانقطعت عنِّي أخباره زهاء سنتين، والحرب تأكل الأخضر واليابس. وبالفعل ظهرت حصافته وحنكته – لولا أنَّه أخي لقلتُ: شطارته - التِّجاريَّة، إذ لم يمضِ عام على نشوب الحرب حتى استولت الميليشيات على البنك المركزيِّ وكسَّروه ونهبوه؛ فسارع البنك الدولي إلى إلغاء الفرنك الرواندي الذي لم تعُد قيمتُه تعادل قيمة أوراق الشَّجر الجافَّة التي تملأ شوارع كيغالي. وذات يوم وقع خبره على مفرق رأسي وقوع الصَّاعقة، شابٌّ من فلول الميليشيات من عشيرتي أكَّد لي أنَّه رأى أخي الأكبر في العاصمة منذ أشهر في سيارة جيب بصحبة مجموعة من الجنود عند مستودَع شركتنا! تُرى.. لماذا عاد إلى كيغالي وكلُّ حيٍّ فيها محكوم عليه بالموت؟ فهل عاد أخي الأكبر ليستخرج الكنْز؟ أيظنُّ أنني مقتول؟ أقبضت عليه الميليشيات فدلَّهم على الكنز؟ كانت الوساوس والظُّنون تساورني كلَّ ليلة، وخيبة أملي تتضخَّم يوماً بعد يوم، خاصَّة أنني كنت قد أنفقت الفلس الأخير في جيبي منذ زمن طويل، وعلى عاتقي عيالي في هذا المهجر الفقير حيث لا وجود لما يسمَّى «عمل» أو حتى شبه عمل، بل كان نصف المواطنين في هذا البلد قد انقلبوا «لاجئين» مثلنا، وأصبحوا مثل كبار الموظفين الحكوميِّين يأخذون نصيب الأسد من المعونات الغذائيَّة التي توزعها علينا منظمة اللاَّجئين.. كان المثل الشّعبي يجلجل في أذني: «لا تأمن اثنين ما حييت: الدُّنيا والهوتو!» ويوم عدتُ إلى كيغالي بُعَيد الحرب، وقبل أن يعرف أقاربي القلائلُ بعودتي، وقبل أن أشرع في إخلاء داري من جيوش الأعشاب، وكتائب السّحالي والحشرات التي بدتْ كأنَّها كانت تستعجل مغادرة أهل المدينة؛ لتحتلَّها احتلالاً مؤبَّداً، وتتكاثر فيها بسرعة مذهلة في انفجار سكانيٍّ تعوِّض به خسارة مئات الآلاف من الأرواح التي حصدتها أيدي الميليشيات المتوحِّشة. وقبل كلِّ شيء كان لا بدَّ لي من جولة استكشاف عاجلة لمستودع شركتنا. وحين وصلتُ إلى المستودَع كنتُ أحمل عصاً يعلم الله أنَّني لم أقصد أن أتَّكئ عليها، ولكن لأصارع بها الأعشاب الطَّويلة، وما قد يوجد بالمكان من سلالات الأفاعي في ضخامة «أناكُونْدات» أدغال الأمازون، وسحالي «الكومُودو» العملاقة. وبعد أن نجحتُ في اختراق الحوش المحيط بالمستودع إلى عمقه؛ فوجئتُ بمنظر مروِّع: بقايا عظام هيكليَّة آدميَّة وعدَّة جماجم هنا وهناك. لا شكَّ أن القتلة الوحشيِّين أقاموا هنا مهرجان جزارة مُروِّعاً.. سواطير متصدِّئة، وقِطع فولاذيَّة حادَّة غليظة مرميَّة بالمكان تشهد ببشاعة ذلك المهرجان الآثم.. كان المِعْوَل والرَّفش والمحراث التي استخدمناها في الحفر موجودةً أيض اً.. تُرى أستخدمها القَتَلة الجزَّارون في جريمتهم؟! وخلال دقائق كان الهلعُ قد أنساني ما جئتُ من أجله، وحين تخلَّصتُ من إسار هذا المشهد الجنونيِّ؛ وقع بصري على الردم الذي غطينا به الكنْز المدفون، وقد أصبح كومةَ تراب نبت فوقها العشب.. ثم درت دوْرَة حول كومة التُّراب تيقَّنتُ بها أنَّ الكنْز ما زال تحتها، وفجأةً انتابني شعورٌ عنيف بالخجل. تُرى إذا ما باغتني أخي الأكبر الآن في هذا المكان فماذا أنا قائلٌ له؟ كيف جئتُ إلى هذا المكان قبل ذهابي إلى دار أخي؛ لتفقُّد أحواله والاطمئنان عليه؟ يا لها من خيانة عظمى لرباط الأخوَّة الذي يجمعنا! تسـلَّلتُ بخفَّة من المكان وكأنَّني غريبٌ دخيلٌ أحذر أن يراني أحدٌ متلبِّساً بجريمة اقتحام موقع محظور. لم أكدْ أتخطَّى عتبةَ دار أخي الأكبر حتى فوجئتُ بزوجتي وقد سبقتني إلى هذه الدَّار، وهي في بكاء حارٍّ، وقد تحلَّق بها عددٌ قليل من نساء الحيِّ النَّحيلات. كانت زوجةُ أخي الأكبر تواسي زوجتي.. يا إلهي! ما هذا الحِداد المفاجئ؟! عجزت ساقاي عن تحمُّلي حين سمعتُ بالنَّبأ الفاجع.. هويتُ جالساً على كومة طوب وأنا أسترجع.. لقد مات أخي مقتولاً! كان قد عاد فجأةً إلى كيغالي لأمر عاجل تاركاً رسالةً لزوجته، وأخرى لي. واثنان من أطفاله الثَّلاثة توفُّوا بعده بالكوليرا التي تبيضُ وتصفر حرَّةً طليقةً بمعسكرات اللاَّجئين. وبيد مرتعشة قرأتُ رسالته إليَّ، وكان فيها: «أخي الأصغر! أكتب إليك هذه الكلمات، ولكن رجائي أن لا تتهيَّأ الظُّروف حتى تقرأها.. أرجو أن يجمع الله بيننا، وأن تضع هذه الحرب الوحشيَّة أوزارها عاجلاً. إنَّني الآن في طريقي إلى كيغالي؛ لإصلاح خطأ جسيم لم نفطِن له: لا بدَّ من عمل فتحة خفيَّة للحفرة تنفذ منها الحرارة، وإلاَّ فإنَّ الحرارة سوف «تحرق» العاج، ويصفرُّ لونه في غضون أشهر.. سأجعل أنبوباً خفيّاً في جدار. وقد جزمتُ لزوجتي ألاَّ تفتح هذه الرِّسالة تحت أيِّ مبرِّر إلا إذا أيقنت أننا - نحن الاثنين - قد فارقنا الحياة. أخي الأصغر! كم أنا مشتاقٌ إليك!». |
ربَّ أخ ...
الشيخ مصطفى- رئيس مجلس إدارة المنتدى
- عدد المساهمات : 1147
- مساهمة رقم 1