*3*
كنت جالس داخل مكتبي في أحد المقابر التي عينت فيها كمتطوع بدون أجر أراجع بعض الأوراق فدخل علي شاب وعليه علامات الغضب والحزن وقال لي يا شيخ إن أخي توفي ونريد تجهيزه لصلاة الظهر، فقلت أين أخاك ؟! فقال لي داخل السيارة يا شيخ .. قلت : قم بإنزاله داخل المغسلة وضعوه على دكّة الغسل حتى أبدل ملابسي . فدخلت على هذا الشاب وكان في العقد الثالث في العمر وكان داخل المغسلة اثنين من أقاربه وأخاه وأحد أصدقائه ، كان هذا الشاب بملابسه لأنه توفي داخل المنزل فقمت بالبدء بتجريده من ملابسه بواسطة المقص بدءاً من كمه الأيمن حتى الرقبة ثم نزولاً من الرقبة حتى رجليه .. إنما وجدت في هذا الشاب أنه كان ملفوف الرأس بشماغه لفة غير طبيعية كأنه مشنوق فقمت بنزع هذا الشماغ بصعوبة من وجهه وليتني لم أفعل ! عندما كشفت عن وجه هذا الشاب ليتني لم أفعل يا إخوان ! كأنني كشفت عن فتحة مجاري للمياه لماذا يا إخوان ؟! لأنه هناك ريح صدرت من فم هذا الشاب لم أستطيع تحملها ، ريح نتنة ريح عفنة ريح نافذة قوية لم يستطيع أقربائه تحمل هذه الريح فخرجوا من داخل المغسلة .. بقيت أنا وأخاه وأحد زملائه فلم أستغرب من أخاه وزميله أنهم تأثروا من هذه الريح لماذا ؟! لأنني وجدت هذه الريح تصدر منهم أيضا .. أتعلمون يا إخوان ما كانت هذه الريح التي تفوح من فم هذا الميت ؟! كانت ريح الدخان والعياذ بالله .. كأن هذا الميت مات وهو يشرب الدخان .. ريح نتنة تصدر من هذا الميت بدرجة أنني فقدت توازني فقمت بوضع قطعة من القطن عليها قليل من الطيب داخل أنفي لتغيير هذه الريح ولم يتأثر أخاه وزميله من هذه الريح لماذا ؟! كما ذكرت لأنني وجدت علبة الدخان في جيب أخيه فقمت بتجهيز وغسل هذا الشاب وأنزلناه إلى النعش لنكفينه ثم أردت أن أضع بعض الطيب على أماكن السجود التي كان يسجد فيها لله في المسجد ولتخفيف هذه الريح عنه فقمت بدهن جميع مواضع السجود وقمت بدهن جسده كاملاً بهذا الطيب ومع ذلك يا إخوان لم أستطيع أن أخفف ريحة هذا الدخان من جسده ، وبعد تكفينه قمت بوضع زجاجة أخرى من هذا الطيب إلى الكفن لدرجة أن أي واحد يشاهد هذا الميت وهو مكفن وعليه علامات خارج الكفن من البقع يظن أن المغسل لم يحسن الغسل ! إن هذه البقعة كانت من الطيب لتخفيف ريحة الدخان التي تصدر من هذا الميت ومع ذلك لم أستطيع تخفيف هذه الريح .. ثم وضعنا عليه الغطاء الأخير ووضعت فوق الغطاء بعض الطيب ولا زال ريحة الدخان تملأ هذه الغرفة ! .. العبرة ليست هنا يا إخوان العبرة عندما خرجت من باب المغسلة للتوجه لدورات المياه للاستحمام كان خارج المغسلة الكثير من الإخوة منتظرين بعض الجنائز لتجهيزها بالمقبرة فكان في ذلك اليوم أكثر من أربعة جنائز منها جنازة لامرأة وجنازة لرجلين وجنازة هذا الشاب الذي قمت بغسله .. وعند خروجي وجدت أحد الإخوة يصرخ في الحاضرين ويقول أمام الناس: ألم يجدوا غير هذا الشيخ المدخن ليغسل موتانا ! وقالها أكثر من مرة ولم أعيره أي انتباه وذهبت إلى دورات المياه ثم عدت ثانية فوجدت هذا الرجل يقف في وسط المدخل ويشير إلي ويقول لي : يا شيخ ألا تتقي الله تغسل موتانا وأنت تدخن ! اتقِ الله يا شيخ ! كيف تغسل موتانا وأنت تدخن ! .. فمسكت من يده ثم قمت بإدخاله إلى داخل المغسلة ثم كشفت عن وجه هذا الشاب وقلت له : جزاك الله خيرا يا أخي لقد قمت بالصراخ علي أمام الناس واتهمتني بهذه الريح النتنة أنها صادرة مني إنما هي من هذا الميت الذي قمت بإحضاره إلى المقبرة ! .. فقال كيف يا شيخ ؟!! .. قلت له : هذا هو الشاب أمامك وهذه الريح لا زالت في الغرفة .. فاقترب من هذا الشاب واشتم هذا الريح فلم يستطيع تحمل هذا الريح ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله فقال لي يا شيخ الآن سوف أخرج وأقول للحاضرين أن هذه الريح ليست من الشيخ .. فقلت له لا ، لا تفعل ذلك لأنك لو خرجت وقلت ذلك سوف تفضح هذا الشاب إنما أنا أتحمله لأن كل الموجودين في الخارج لن يصدقوا أن هذه الريح من مغسل الأموات لكن لي طلب عندك ؟! .. قال أبشر يا شيخ .. قلت ميتك هذا لا نستطيع الصلاة عليه ، قال كيف يا شيخ إن هذا الشاب مسلم وشرب الدخان معصية والله هو الذي سوف يحاسبه على هذه المعصية . فقلت له نعم لكن أنت كما تعلم أن الملائكة تتأذى من رائحة البصل والثوم والكراث في المسجد فكيف بهذه الريح النتنة التي تصدر من هذا الميت ! ولا تنسى أن هناك أكثر من جنازة سوف يصلون عليها في هذا المسجد فلو أحضرنا هذا الشاب إلى هذا المسجد للصلاة عليه سوف يعتقد ويظن الكثير من المصلين أن هذه الريح صادرة من نفس الميت الذي حضروا للصلاة عليه .. فقال لي وهو غاضب : لا يا شيخ لابد لنا أن نصلي على هذا الشاب في المسجد . فقلت له إن الحكم بيني وبينك إمام المسجد فدعنا نذهب إليه سوياً فذهبنا إلى إمام المسجد وقلت له في عجالة ما حصل لهذا الشاب وهذه الريح النتنة التي تصدر منه فقال لي الإمام : هل أحسنت غسله يا شيخ ؟ قلت نعم ، غسلته ثلاثا ثن خمسة ثم سبعة ثم طيبته ولم أستطيع تخفيف هذه الريح . فأراد الإمام أن يحضر وذلك لمزيد من التأكيد فقبل أن يفتح باب المغسلة وإذا بهذه الريح تخرج من هذه الغرفة إلى وجه هذا الإمام فلم يستطيع الإمام الدخول فقام بإقفال باب المغسلة وقال لمرافقه لا نستطيع الصلاة عليه في المسجد صلوا عليه داخل المقبرة .. فقام غاضباً هذا الرجل وذكر له مثل ما ذكر لي إلا أن الإمام أصرّ على أنه لا يصلى على هذا الرجل داخل المسجد .. فلكم أن تتخيلوا يا إخوان أخرجنا هذا الشاب من المغسلة ووضعناه للصلاة عليه في ممر المدخل وطلبت من الإخوة الحاضرين لأكثر من مرة يا إخوان يا مسلمين دعونا نصلي على هذا الشاب لنقوم بدفنه . فلكم أن تتخيلوا يا إخوان بعد أن قلت لهم وطلبت منهم أن يشاركوني في الصلاة على هذا الشاب لم يقم ولا أحد من الإخوة الحاضرين داخل هذه المغسلة للصلاة على هذا الشاب ! .. قام أحد الإخوة وقال لي لاختصار الوقت قال لي اسمع يا شيخ نحن حضرنا ولدينا جنائز هنا للصلاة عليها فنحن أولى بالصلاة على الجنائز التي حضرنا لأجلها صلّ على هذا الشاب يا شيخ وأسرع بدفنه .. فقمت أنا والعاملين بالمقبرة وبعض مرافقي البعض فقط ، البعض الآخر رفض الصلاة على هذا الشاب . لم نتعد أصابع اليدين يا إخوان في الصلاة على هذا الشاب ثم قمنا برفعه والذهاب به إلى القبر وهنا كانت العبرة يا إخوان أنتم كما تعلمون عند إنزال الميت إلى داخل القبر نقوم بإنزاله وندخل الميت من جهة رأسه سل ثم نقوم بوضعه على جنبه الأيمن باتجاه القبلة ثم نقوم بحل الأربطة وعندما أنزلنا هذا الشاب .. يا إخوان كانت العبرة داخل القبر ! كان من حضر معاي الغسل أخاه وأحد أصدقائه واثنان من أقربائه كانوا داخل القبر فعند توجيه هذا الشاب إلى القبلة وبدأت بحل الأربطة فوجدت شيئا يتحرك من جهة رأسه فعندما إلتفت عن يميني وجدت وجهه إلى عكس القبلة ! فأردت أن أتأكد أن ذلك لم يكن مقصوداً فحاولت توجيه وجهه إلى القبلة مرة أخرى وقمت بحل عقدة من الأربطة إنما وجدت للمرة الثانية أن وجهه على عكس القبلة لدرجة أن أخاه انهار داخل القبر وأصابه شلل مؤقت من منتصف رجليه فقال لي : يا شيخ دعني أحاول توجيه أخي إلى القبلة . فقلت له تفضل ثم خرجت من القبر واتصلت بأحد المشائخ جزاه الله خيرا وشرحت له ما حصل لي منذ بداية غسل هذا الشاب .. فتوقعوا يا إخوان ماذا قال لي الشيخ ؟! .. ماذا قال لي الشيخ ؟! .. قال لي وهو يبكي : أتريد أن تعصي الله يا شيخ ! أتريد أن تعصي الله ، الشيخ ينهرني ويقول لي أتريد أن تعصي الله ! فقلت له : كيف يا شيخ ؟! قال : ألم تكتفي بما وجدته من هذه الريح النتنة أثناء الغسل ومن رفض بقية الإخوة للصلاة عليه ثم إنزاله للقبر وقمت بتوجيهه للقبلة مرة ومرتين ولم يتوجه إلى القبلة وتريد أن تعصي الله وتريد أن توجهه إلى القبلة عنوة وبالقوة ! ادفنوا هكذا ادفنوا هكذا وأقفل الخط ! .. فنزلت لأخرج من كان داخل القبر فوجدت أن أخاه قد انهار كلياً من محاولته لتوجيه أخاه باتجاه القبلة حتى أنني وجدت شكل الكفن من ناحية الرأس ليس طبيعياً من محاولته لتوجيه أخاه للقبلة فقمنا بإخراج أخاه من القبر وهو محمول على الأكتاف لأنه انهار جداً ولا يستطيع المشي أو الوقوف بسبب ثقل رجليه من هول المنظر الذي رآه .. قمنا بإدخال هذا الأخ إلى داخل المكتب عندي ثم أخرجت من كان بالمكتب وأقفلت المكتب ثم قلت له : كيف مات أخوك ؟! .. فقال لي يا شيخ كما هو موضح لديك بتصريح الدفن وتبليغ الوفاة . قلت أنت شاهدت بنفسك ماذا حصل لأخاك داخل المقبرة فأخذ يبكي ويقول لي استر أخي الله يسترك ! استر أخي يا شيخ الله يسترك ! قلت له: قل لي .. فقال لا أستطيع .. قلت له إن لم تذكر لي سوف أخرج من هذا المكتب وأذكر لكل الموجودين داخل المغسلة ماذا حصل لأخيك داخل هذا القبر ! وأنا لا أعني ذلك يا إخوان منذ بدايتي لهذا العمل النبيل منذ أكثر من أربعة عشر سنة لم أقوم بفضح أي ميت أو أذكر محاسنه أو عيوبه أو أذكر اسمه أو جنسيته أو مكان دفنه إنما أردت أن أخوفه بذلك .. فعندما أردت فتح باب المكتب قام أخوه وأخذ يقبل رأسي ويقول لي يا شيخ استر أخي الله يسترك استر أخي الله يسترك .. فقلت له احك ماذا رأيت في القبر؟! ومن الذي جعلك بهذا المنظر ؟! فقال يا شيخ إن سبب انهياري داخل القبر ليست من ريحة الدخان التي صدرت من أخي أثناء الغسل وليست من رفض الإخوة أن يصلوا عليه إنما لهول المنظر الذي رأيته داخل القبر .. قلت ماذا ؟! قال من منظر وأنت تريد توجيه أخي إلى القبلة ثم عند حلك للأربطة نجد أن وجهه اتجه إلى عكس القبلة فأصابني الانهيار لقد تذكرت أن أخي كان لا يوجه وجهه للقبلة في المسجد فأراد الله أن يفضحه داخل القبر ولا يريد توجيهه إلى القبلة فأصابني هذا الانهيار لقد أنهرت يا شيخ عندما تذكرت أن أخي لا يصلي لم يوجه وجهه للقبلة ! فكيف له وهو ميت أن يتوجه وجهه للقبلة ! .. فقلت له لماذا لم تذكر لي ذلك أثناء الغسل ؟! فقال لي يا شيخ إن أخي يصلي إنما كان يصلي رياء ونفاق فكان يجمع ويقصر دون سبب لذلك وإذا كانت هناك مناسبات فإنه يجمع جميع الفروض دفعة واحدة وفي بعض الأيام وبعض الرحلات لا يصلي هذا اليوم كله ..
وقد ظهر المغطّى من قبيح المعاصي *** وانـجـلاء عـنــه الـغـطـاء
كتبـت صحائفـي ذنـبـاً وإثـمـاً *** فهل يجدي لـدى المـوت العـزاء
وهـل يجـدي النحيـب إذا تمـادت *** هـي السكـرات أو حـلّ الـبـلاء
وأبصرت الطريـق وكنـت أعمـى *** وما يجـدي وقـد حـان الجـزاء
كتبـت صحائفـي ذنـبـاً وإثـمـاً *** فهل يجدي لـدى المـوت العـزاء
وهـل يجـدي النحيـب إذا تمـادت *** هـي السكـرات أو حـلّ الـبـلاء
وأبصرت الطريـق وكنـت أعمـى *** وما يجـدي وقـد حـان الجـزاء