بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى:
الغَيْرة هي: الحَمِيّة والأَنَفَة، يُقال: رجل غَيُور، وامرأة غَيُور وغَيْرَى. والمِغْيار: شديد الغيرة. وفلان لا يتغيَّر على أهله: لا يغار عليهم[1].
قال الحافظ - رحمه الله -: "الغيرة بفتح المعجمة وسكون التحتانية بعدها راء، قال عياض وغيره: هي مشتقة من تَغَيُّر القلب وهيجان الغضب بسبب المشاركة فيما به الاختصاص، وأشد ما يكون ذلك بين الزوجين"[2].
الغيرة على الأعراض من الأمور الجبِلّية الفطرية، وانعدامها دليل على انتكاس في الفطرة، وهو يفضي إلى انتشار الفواحش، ولا أدلَّ على ذلك من قصة يوسف - عليه السلام -، فإن أهل التفسير - رحمهم الله - بينوا أنَّ قول العزيز ليوسف - عليه السلام -: أعرض عن هذا[3] واكتفاءه به دليل على قلة غيرته، فكان أنْ أعادت امرأته محاولاتها لتحظى بما تريده من يوسف - عليه السلام -، فقد قال الله - تعالى - عن النسوة في سورة يوسف: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ} [يوسف: 30]، فجاء التعبير بالمضارع الدال على استمرارية سعيها، وقالت بعد ذلك لما طلبت اجتماعهن: {وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ} [يوسف: 32]. ولو أنَّ زوجها عُرِف بغيرته لما حدث شيء من ذلك؛ لأن الغيور من الرجال تحذر امرأته من فعل ما يهيِّج غيرته، ولو أدى ذلك إلى أنْ تترك بعض ما لا إثم فيه، ولو قُدِّر أن صدر منها بعض ذلك فإنه يزجرها بما لا يجعلها تعاوده، وإليك أقوالهم التي تبين ما ذكرتُه من قلة غيرته:
قال ابن عطية - رحمه الله -: "وذلك أنَّ العزيز كان قليل الغيرة، بل قومه أجمعين، ألا ترى أنَّ الإنكار في وقت القميص إنما كان بأن قيل: إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم، وهذا يدل على قلة الغيرة، ثم سكن الأمر بأن قال: يوسف أعرض عن هذا، وأنت استغفري، وهي لم تبق حينئذ إلا على إنكارها وإظهار الصحة، فلذلك تُغوفِل عنها بعد ذلك؛ لأن دليل القميص لم يكن قاطعًا، وإنما كان أمارة ما، هذا إن لم يكن المتكلم طفلاً"[4].
وقال القرطبي - رحمه الله - : "وقيل: إن القائل ليوسف: أعرض ولها: استغفري زوجها الملك، وفيه قولان: أحدهما: أنه لم يكن غيورًا، فلذلك كان ساكنًا، وعدم الغيرة في كثير من أهل مصر موجود، الثاني: أن الله - تعالى - سلبه الغيرة، وكان فيه لطف بيوسف"[5].
وقال أبو السعود: "وقيل: كان ـ أي: العزيز ـ قليل الغيرة"[6].
وقال الرازي - رحمه الله - ناقلاً قول غيره مقررًا له: "إن ذلك الزوج كان قليل الغيرة، فاكتفى منها بالاستغفار"[7].
وقال ابن تيمية - رحمه الله -: "وذلك أن زوجها كان قليل الغيرة أو عديمها، وكان يحب امرأته ويطيعها، ولهذا لما اطلع على مراودتها قال: يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين، فلم يعاقبها، ولم يفرق بينها وبين يوسف حتى لا تتمكن من مراودته، وأمر يوسف أن لا يذكر ما جرى لأحد محبةً منه لامرأته، ولو كان فيه غيرة لعاقب المرأة. ومع هذا فشاعت القصة، واطلع عليها الناس من غير جهة يوسف، حتى تحدثت بها النسوة في المدينة، وذكروا أنها تراود فتاها عن نفسه، ومع هذا فأرسلت إليهن، وأعتدت لهن مُتَّكَأً، وآتت كل واحدة منهن سكينًا، وأمرت يوسف أن يخرج عليهن ليُقِمن عذرها على مراودته، وهي تقول لهن: فذلكن الذي لُمْتُنَّنِي فيه، ولقد راودته عن نفسه فاستعصم، ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونن من الصاغرين. وهذا يدل على أنها لم تزل متمكنة من مراودته والخلوة به مع علم الزوج بما جرى، وهذا من أعظم الدِّيَاثة "[8].
فهذا يبين أنَّ انعدام الغيرة سبب لانتشار الفواحش، أما الأدلة على أنَّ الغيرة تحمل على حفظ الأعراض والذود عن حماها فكثيرة:
منها أنَّ ابنة شعيب لما قالت: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص: 26] أحفظته ـ أي: أغضبته ـ الغيرة أن قال: وما يدريك ما قوته وأمانته؟! قالت: أما قوته فما رأيت منه حين سقى لنا، لم أر رجلاً قط أقوى في ذلك السقي منه، وأما أمانته فإنه نظر حين أقبلتُ إليه وشخصت له، فلما علم أني امرأة صوب رأسه فلم يرفعه، ولم ينظر إلي حتى بلّغته رسالتك، ثم قال: امشي خلفي وانعتي لي الطريق، ولم يفعل ذلك إلا وهو أمين. فسُرِّي عن أبيها، وصدقها، وظن به الذي قالت[9]. فسؤاله لها دليل على صيانة عرضه، وسبب سؤاله الغيرة.
ومن غرائب أدلة ذلك أنَّ بلقيس التي أدركت سليمان - عليه السلام - كانت أمها من الجنِّ، وسبب ذلك أنَّ أباها كان وزيرًا لملك يغتصب نساء وزرائه، فأملت الغيرة عليه زواج جنية لا يراها ملكه[10].
ومن الأدلة أنَّ رجلاً دخل على أبي سعيد الخدري في بيته، قال: فوجدته يصلي، فجلست أنتظره حتى يقضي صلاته، فسمعت تحريكًا في عَرَاجِين ـ عيدان يابسة ـ في ناحية البيت، فالتفت فإذا حَيَّة، فوثبت لأقتلها، فأشار إلي: أن اجلس، فجلست. فلما انصرف أشار إلى بيت في الدار فقال: أترى هذا البيت؟ فقلت: نعم، قال: كان فيه فتى منا حديث عهد بعرس، فخرجنا مع رسول الله إلى الخندق، فكان ذلك الفتى يستأذن رسول الله بأنصاف النهار فيرجع إلى أهله، فاستأذنه يومًا فقال له رسول الله: (خذ عليك سلاحك؛ فإني أخشى عليك قريظة). فأخذ الرجل سلاحه ثم رجع، فإذا امرأته بين البابين قائمة، فأهوى إليها الرمح ليطعنها به وأصابته غَيْرةٌ، فقالت له: اكفف عليك رمحك، وادخل البيت حتى تنظر ما الذي أخرجني. فدخل فإذا بحية عظيمة منطوية على الفراش، فأهوى إليها بالرمح فانتظمها به، ثم خرج فركزه في الدار، فاضطربت عليه، فما يُدرى أيهما كان أسرع موتًا: الحية أم الفتى، فجئنا إلى رسول الله فذكرنا ذلك له وقلنا: ادع الله يحييه لنا، فقال: (استغفروا لصاحبكم)، ثم قال: (إن بالمدينة جِنًّا قد أسلموا، فإذا رأيتم منهم شيئًا فآذنوه ثلاثة أيام، فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه، فإنما هو شيطان) أخرجه مسلم (2236). فهذا الفتى مع شدة تعلقه بأهله لكونه حديث عهد بعرس أراد أن يزجرها برمحه حماية لعرضه، وسبب ذلك غيرته.
ومما يدل لذلك أيضًا قول سعد بن عبادة: لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مُصَفَّح ـ أي: بحدّه لا بعرضه ـ، فبلغ ذلك رسول الله فقال: (أتعجبون من غيرة سعد؟ فوالله، لأنا أغير منه، والله أغير مني، من أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن) رواه البخاري ومسلم[11].
وفي رواية لمسلم[12] قال سعد بن عبادة: يا رسول الله، لو وجدت مع أهلي رجلاً لم أمسَّه حتى آتي بأربعة شهداء؟! قال رسول الله: (نعم). قال: كلا والذي بعثك بالحق، إنْ كنت لأعاجله بالسيف قبل ذلك. قال رسول الله: (اسمعوا إلى ما يقول سيدكم، إنه لغيور، وأنا أغير منه، والله أغير مني). وفي رواية قال رسول الله: (يا معشر الأنصار، ألا تسمعون ما يقول سيدكم؟) قالوا: يا رسول الله لا تلمه؛ فإنه رجل غيور، والله ما تزوج فينا قط إلا عذراء، ولا طلق امرأة له فاجترأ رجل منا أن يتزوجها من شدة غيرته. قال سعد: والله إني لأعلم يا رسول الله إنها لحق، وإنها من عند الله، ولكني عجبت[13].
يقول النووي - رحمه الله -: "ليس قوله ردًّا لقول النبي، ولا مخالفةً من سعد بن عبادة لأمره، وإنما معناه الإخبار عن حالة الإنسان عند رؤيته الرجل عند امرأته واستيلاء الغضب عليه، فإنه حينئذ يعاجله بالسيف، وإن كان عاصيًا"[14]. وهذا الكلام من سعد كان قبل تشريع اللعان[15].
فهذا يدل على أنَّ الغيور لا يمكن أن يقر سوءًا في أهله، وهذا مما يقلل الشر والفاحشة.
ومن الأدلة كذلك سبب غزوة بني قَيْنُقَاع، فقد جاءت امرأة إلى سوقهم، وجلست إلى صائغ هناك، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها، فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوأتها، فضحكوا بها فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله وكان يهوديًّا، فشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فكانت الغزوة[16].
ولما أصَرَّت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - بعد حجة الوداع أنْ تأتي بعمرة بعد قرانها أرسل النبي معها أخاها عبد الرحمن إلى التنعيم لتُحرم منه، تقول: فأردفني خلفه على البعير في ليلة حارة، فجعلت أحسر عن خماري، فتناولني بشيء في يده[17]، فقلت: هل ترى من أحد معنا؟! رواه الطيالسي[18].
ومن طرائف ذلك أن الزبير بن العوام تزوج امرأة اشترطت عليه أن لا يمنعها من صلاة العشاء في مسجد النبي، فلما أرادت أن تخرج إلى العشاء شق ذلك على الزبير، فلما رأت ذلك قالت: ما شئت، أتريد أن تمنعني؟! فلما عيل صبرُه خرجت ليلة إلى العشاء فسبقها الزبير فقعد لها على الطريق من حيث لا تراه، فلما مرت جلس خلفها فضرب بيده على عجزها، فنفرت من ذلك ومضت، فلما كانت الليلة المقبلة سمعت الأذان فلم تتحرك، فقال لها الزبير: ما لك؟! هذا الأذان قد جاء! فقالت: والله، لقد فسد الناس في هذا الزمان[19].
ومن أجمل ما يدل على ذلك وأحسنه ما أورده ابن كثير - رحمه الله - في كتابه البداية النهاية إذ قال: "ومن عجائب ما وقع من الحوادث في هذه السنة ـ أي: سنة 286 ـ أنَّ امرأة تقدمت إلى قاضي الري فادَّعت على زوجها بصداقها خمسمائة دينار، فأنكره، فجاءت ببينة تشهد لها به، فقالوا: نريد أن تُسفرَ لنا عن وجهها حتى نعلم أنها الزوجة أم لا. فلما صمَّمُوا على ذلك قال الزوج: لا تفعلوا، هي صادقة فيما تدعيه. فأقرَّ بما ادَّعت؛ ليصون زوجته عن النظر إلى وجهها. فقالت المرأة حين عرفت ذلك منه وأنه إنما أقر ليصون وجهها عن النظر: هو في حِلٍّ من صَداقي عليه في الدنيا والآخرة"[20].
إني لأمنَحُك الصُّدُودَ وإنّني *** قَسَمًا إليك مع الصُّدُود أَمِيلُ
إنَّ المؤمن يحمي عرضه بدمائه، لا يتهاون فيه، ومن فعل ذلك فمات بسببه فهو ممن بشرّهم النبي بالشهادة، قال - عليه الصلاة والسلام -: (من قُتِل دون ماله فهو شهيد، ومن قُتِل دون أهله أو دون دمه أو دون دينه فهو شهيد) رواه أصحاب السنن[21].
ومما يدل على أثر تحقيق الغيرة للعفاف أنَّ الناس يراعون للغيور غيرته، وربما تركوا ما لا جناح فيه مراعاةً له، فهذه أسماء - رضي الله عنها - تقول: تزوجني الزبير وما له في الأرض من مال ولا مملوك ولا ناضِح غير فرسه، فكنت أَعلُف فرسه، وأستقي الماء، وأَخْرزُ غَرْبه، وأعجن، ولم أكن أحسن أخبز، وكان يخبز جارات لي من الأنصار، وكن نسوة صدق، وكنت أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله على رأسي وهي مني على ثلثي فرسخ، فجئت يومًا والنوى على رأسي فلقيت رسول الله ومعه نفر من الأنصار فدعاني، ثم قال: (أخ، أخ)؛ ليحملني خلفه، فاستحييت أن أسير مع الرجال، وذكرت الزبير وغيرته وكان أغير الناس، فعرف رسول الله أني قد استحييت فمضى، فجئت الزبير فقلت: لقيني رسول الله وعلى رأسي النوى، ومعه نفر من أصحابه، فأناخ لأركب، فاستحييت منه وعرفت غيرتك. فقال: والله لحملك النوى كان أشدَّ علي من ركوبك معه. قالت: حتى أرسل إليَّ أبو بكر بعد ذلك بخادم يكفيني سياسة الفرس، فكأنما أعتقني. أخرجه البخاري ومسلم.
ولما قال سعد بن عبادة ما قال قالت الأنصار: إنه رجل غيور، والله ما تزوج فينا قط إلا عذراء، ولا طلق امرأة له فاجترأ رجل منا أن يتزوجها من شدة غيرته. رواه البيهقي[22].
قال الشنقيطي - رحمه الله - : " كثير من البلاد التي تركت الصيانة صار نساؤها يخرجن متبرجات عاريات الأجسام إلا ما شاء الله؛ لأن الله نزع من رجالها صفة الرجولة والغيرة على حريمهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، نعوذ بالله من مسخ الضمير والذوق ومن كل سوء"[23].
فهذه النقولات تؤكد أنَّ ضياع الغيرة مُفْضٍ إلى ضياع الشرف والعفة، مُؤْذِن ببلاء عريض، ولذا كان الخسران جزاء من فقدها، قال: (ثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والدَّيُّوث[24]، ورَجُلَة النساء) رواه الطبراني والحاكم[25].، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: (إِنَّ اللَّهَ يَغَارُ، وَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَغَارُ، وَغَيْرَةُ اللَّهِ أَنْ يَأْتِيَ الْمُؤْمِنُ مَا حَرَّمَ عَلَيْهِ) رواه مسلم.
وجاء في حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: قال النبي: (رأيتني دخلت الجنة فإذا أنا بالرُّمَيْصَاء امرأة أبي طلحة، وسمعت خَشَفَةً ـ أي: حركة ـ فقلت: من هذا؟ فقال: هذا بلال، ورأيت قصرًا بفنائه جارية، فقلت: لمن هذا؟ فقالوا: لعمر، فأردت أن أدخله فأنظر إليه، فذكرت غيرتك، فولّيت مُدْبِرًا)، فبكى عمر وقال: بأبي وأمي يا رسول الله، أعليك أغار؟! متفق عليه[26]. أي: أعليها أغار منك؟! [27].
الخطبة الأولى:
الغَيْرة هي: الحَمِيّة والأَنَفَة، يُقال: رجل غَيُور، وامرأة غَيُور وغَيْرَى. والمِغْيار: شديد الغيرة. وفلان لا يتغيَّر على أهله: لا يغار عليهم[1].
قال الحافظ - رحمه الله -: "الغيرة بفتح المعجمة وسكون التحتانية بعدها راء، قال عياض وغيره: هي مشتقة من تَغَيُّر القلب وهيجان الغضب بسبب المشاركة فيما به الاختصاص، وأشد ما يكون ذلك بين الزوجين"[2].
الغيرة على الأعراض من الأمور الجبِلّية الفطرية، وانعدامها دليل على انتكاس في الفطرة، وهو يفضي إلى انتشار الفواحش، ولا أدلَّ على ذلك من قصة يوسف - عليه السلام -، فإن أهل التفسير - رحمهم الله - بينوا أنَّ قول العزيز ليوسف - عليه السلام -: أعرض عن هذا[3] واكتفاءه به دليل على قلة غيرته، فكان أنْ أعادت امرأته محاولاتها لتحظى بما تريده من يوسف - عليه السلام -، فقد قال الله - تعالى - عن النسوة في سورة يوسف: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ} [يوسف: 30]، فجاء التعبير بالمضارع الدال على استمرارية سعيها، وقالت بعد ذلك لما طلبت اجتماعهن: {وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ} [يوسف: 32]. ولو أنَّ زوجها عُرِف بغيرته لما حدث شيء من ذلك؛ لأن الغيور من الرجال تحذر امرأته من فعل ما يهيِّج غيرته، ولو أدى ذلك إلى أنْ تترك بعض ما لا إثم فيه، ولو قُدِّر أن صدر منها بعض ذلك فإنه يزجرها بما لا يجعلها تعاوده، وإليك أقوالهم التي تبين ما ذكرتُه من قلة غيرته:
قال ابن عطية - رحمه الله -: "وذلك أنَّ العزيز كان قليل الغيرة، بل قومه أجمعين، ألا ترى أنَّ الإنكار في وقت القميص إنما كان بأن قيل: إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم، وهذا يدل على قلة الغيرة، ثم سكن الأمر بأن قال: يوسف أعرض عن هذا، وأنت استغفري، وهي لم تبق حينئذ إلا على إنكارها وإظهار الصحة، فلذلك تُغوفِل عنها بعد ذلك؛ لأن دليل القميص لم يكن قاطعًا، وإنما كان أمارة ما، هذا إن لم يكن المتكلم طفلاً"[4].
وقال القرطبي - رحمه الله - : "وقيل: إن القائل ليوسف: أعرض ولها: استغفري زوجها الملك، وفيه قولان: أحدهما: أنه لم يكن غيورًا، فلذلك كان ساكنًا، وعدم الغيرة في كثير من أهل مصر موجود، الثاني: أن الله - تعالى - سلبه الغيرة، وكان فيه لطف بيوسف"[5].
وقال أبو السعود: "وقيل: كان ـ أي: العزيز ـ قليل الغيرة"[6].
وقال الرازي - رحمه الله - ناقلاً قول غيره مقررًا له: "إن ذلك الزوج كان قليل الغيرة، فاكتفى منها بالاستغفار"[7].
وقال ابن تيمية - رحمه الله -: "وذلك أن زوجها كان قليل الغيرة أو عديمها، وكان يحب امرأته ويطيعها، ولهذا لما اطلع على مراودتها قال: يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين، فلم يعاقبها، ولم يفرق بينها وبين يوسف حتى لا تتمكن من مراودته، وأمر يوسف أن لا يذكر ما جرى لأحد محبةً منه لامرأته، ولو كان فيه غيرة لعاقب المرأة. ومع هذا فشاعت القصة، واطلع عليها الناس من غير جهة يوسف، حتى تحدثت بها النسوة في المدينة، وذكروا أنها تراود فتاها عن نفسه، ومع هذا فأرسلت إليهن، وأعتدت لهن مُتَّكَأً، وآتت كل واحدة منهن سكينًا، وأمرت يوسف أن يخرج عليهن ليُقِمن عذرها على مراودته، وهي تقول لهن: فذلكن الذي لُمْتُنَّنِي فيه، ولقد راودته عن نفسه فاستعصم، ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونن من الصاغرين. وهذا يدل على أنها لم تزل متمكنة من مراودته والخلوة به مع علم الزوج بما جرى، وهذا من أعظم الدِّيَاثة "[8].
فهذا يبين أنَّ انعدام الغيرة سبب لانتشار الفواحش، أما الأدلة على أنَّ الغيرة تحمل على حفظ الأعراض والذود عن حماها فكثيرة:
منها أنَّ ابنة شعيب لما قالت: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص: 26] أحفظته ـ أي: أغضبته ـ الغيرة أن قال: وما يدريك ما قوته وأمانته؟! قالت: أما قوته فما رأيت منه حين سقى لنا، لم أر رجلاً قط أقوى في ذلك السقي منه، وأما أمانته فإنه نظر حين أقبلتُ إليه وشخصت له، فلما علم أني امرأة صوب رأسه فلم يرفعه، ولم ينظر إلي حتى بلّغته رسالتك، ثم قال: امشي خلفي وانعتي لي الطريق، ولم يفعل ذلك إلا وهو أمين. فسُرِّي عن أبيها، وصدقها، وظن به الذي قالت[9]. فسؤاله لها دليل على صيانة عرضه، وسبب سؤاله الغيرة.
ومن غرائب أدلة ذلك أنَّ بلقيس التي أدركت سليمان - عليه السلام - كانت أمها من الجنِّ، وسبب ذلك أنَّ أباها كان وزيرًا لملك يغتصب نساء وزرائه، فأملت الغيرة عليه زواج جنية لا يراها ملكه[10].
ومن الأدلة أنَّ رجلاً دخل على أبي سعيد الخدري في بيته، قال: فوجدته يصلي، فجلست أنتظره حتى يقضي صلاته، فسمعت تحريكًا في عَرَاجِين ـ عيدان يابسة ـ في ناحية البيت، فالتفت فإذا حَيَّة، فوثبت لأقتلها، فأشار إلي: أن اجلس، فجلست. فلما انصرف أشار إلى بيت في الدار فقال: أترى هذا البيت؟ فقلت: نعم، قال: كان فيه فتى منا حديث عهد بعرس، فخرجنا مع رسول الله إلى الخندق، فكان ذلك الفتى يستأذن رسول الله بأنصاف النهار فيرجع إلى أهله، فاستأذنه يومًا فقال له رسول الله: (خذ عليك سلاحك؛ فإني أخشى عليك قريظة). فأخذ الرجل سلاحه ثم رجع، فإذا امرأته بين البابين قائمة، فأهوى إليها الرمح ليطعنها به وأصابته غَيْرةٌ، فقالت له: اكفف عليك رمحك، وادخل البيت حتى تنظر ما الذي أخرجني. فدخل فإذا بحية عظيمة منطوية على الفراش، فأهوى إليها بالرمح فانتظمها به، ثم خرج فركزه في الدار، فاضطربت عليه، فما يُدرى أيهما كان أسرع موتًا: الحية أم الفتى، فجئنا إلى رسول الله فذكرنا ذلك له وقلنا: ادع الله يحييه لنا، فقال: (استغفروا لصاحبكم)، ثم قال: (إن بالمدينة جِنًّا قد أسلموا، فإذا رأيتم منهم شيئًا فآذنوه ثلاثة أيام، فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه، فإنما هو شيطان) أخرجه مسلم (2236). فهذا الفتى مع شدة تعلقه بأهله لكونه حديث عهد بعرس أراد أن يزجرها برمحه حماية لعرضه، وسبب ذلك غيرته.
ومما يدل لذلك أيضًا قول سعد بن عبادة: لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مُصَفَّح ـ أي: بحدّه لا بعرضه ـ، فبلغ ذلك رسول الله فقال: (أتعجبون من غيرة سعد؟ فوالله، لأنا أغير منه، والله أغير مني، من أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن) رواه البخاري ومسلم[11].
وفي رواية لمسلم[12] قال سعد بن عبادة: يا رسول الله، لو وجدت مع أهلي رجلاً لم أمسَّه حتى آتي بأربعة شهداء؟! قال رسول الله: (نعم). قال: كلا والذي بعثك بالحق، إنْ كنت لأعاجله بالسيف قبل ذلك. قال رسول الله: (اسمعوا إلى ما يقول سيدكم، إنه لغيور، وأنا أغير منه، والله أغير مني). وفي رواية قال رسول الله: (يا معشر الأنصار، ألا تسمعون ما يقول سيدكم؟) قالوا: يا رسول الله لا تلمه؛ فإنه رجل غيور، والله ما تزوج فينا قط إلا عذراء، ولا طلق امرأة له فاجترأ رجل منا أن يتزوجها من شدة غيرته. قال سعد: والله إني لأعلم يا رسول الله إنها لحق، وإنها من عند الله، ولكني عجبت[13].
يقول النووي - رحمه الله -: "ليس قوله ردًّا لقول النبي، ولا مخالفةً من سعد بن عبادة لأمره، وإنما معناه الإخبار عن حالة الإنسان عند رؤيته الرجل عند امرأته واستيلاء الغضب عليه، فإنه حينئذ يعاجله بالسيف، وإن كان عاصيًا"[14]. وهذا الكلام من سعد كان قبل تشريع اللعان[15].
فهذا يدل على أنَّ الغيور لا يمكن أن يقر سوءًا في أهله، وهذا مما يقلل الشر والفاحشة.
ومن الأدلة كذلك سبب غزوة بني قَيْنُقَاع، فقد جاءت امرأة إلى سوقهم، وجلست إلى صائغ هناك، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها، فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوأتها، فضحكوا بها فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله وكان يهوديًّا، فشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فكانت الغزوة[16].
ولما أصَرَّت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - بعد حجة الوداع أنْ تأتي بعمرة بعد قرانها أرسل النبي معها أخاها عبد الرحمن إلى التنعيم لتُحرم منه، تقول: فأردفني خلفه على البعير في ليلة حارة، فجعلت أحسر عن خماري، فتناولني بشيء في يده[17]، فقلت: هل ترى من أحد معنا؟! رواه الطيالسي[18].
ومن طرائف ذلك أن الزبير بن العوام تزوج امرأة اشترطت عليه أن لا يمنعها من صلاة العشاء في مسجد النبي، فلما أرادت أن تخرج إلى العشاء شق ذلك على الزبير، فلما رأت ذلك قالت: ما شئت، أتريد أن تمنعني؟! فلما عيل صبرُه خرجت ليلة إلى العشاء فسبقها الزبير فقعد لها على الطريق من حيث لا تراه، فلما مرت جلس خلفها فضرب بيده على عجزها، فنفرت من ذلك ومضت، فلما كانت الليلة المقبلة سمعت الأذان فلم تتحرك، فقال لها الزبير: ما لك؟! هذا الأذان قد جاء! فقالت: والله، لقد فسد الناس في هذا الزمان[19].
ومن أجمل ما يدل على ذلك وأحسنه ما أورده ابن كثير - رحمه الله - في كتابه البداية النهاية إذ قال: "ومن عجائب ما وقع من الحوادث في هذه السنة ـ أي: سنة 286 ـ أنَّ امرأة تقدمت إلى قاضي الري فادَّعت على زوجها بصداقها خمسمائة دينار، فأنكره، فجاءت ببينة تشهد لها به، فقالوا: نريد أن تُسفرَ لنا عن وجهها حتى نعلم أنها الزوجة أم لا. فلما صمَّمُوا على ذلك قال الزوج: لا تفعلوا، هي صادقة فيما تدعيه. فأقرَّ بما ادَّعت؛ ليصون زوجته عن النظر إلى وجهها. فقالت المرأة حين عرفت ذلك منه وأنه إنما أقر ليصون وجهها عن النظر: هو في حِلٍّ من صَداقي عليه في الدنيا والآخرة"[20].
إني لأمنَحُك الصُّدُودَ وإنّني *** قَسَمًا إليك مع الصُّدُود أَمِيلُ
إنَّ المؤمن يحمي عرضه بدمائه، لا يتهاون فيه، ومن فعل ذلك فمات بسببه فهو ممن بشرّهم النبي بالشهادة، قال - عليه الصلاة والسلام -: (من قُتِل دون ماله فهو شهيد، ومن قُتِل دون أهله أو دون دمه أو دون دينه فهو شهيد) رواه أصحاب السنن[21].
ومما يدل على أثر تحقيق الغيرة للعفاف أنَّ الناس يراعون للغيور غيرته، وربما تركوا ما لا جناح فيه مراعاةً له، فهذه أسماء - رضي الله عنها - تقول: تزوجني الزبير وما له في الأرض من مال ولا مملوك ولا ناضِح غير فرسه، فكنت أَعلُف فرسه، وأستقي الماء، وأَخْرزُ غَرْبه، وأعجن، ولم أكن أحسن أخبز، وكان يخبز جارات لي من الأنصار، وكن نسوة صدق، وكنت أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله على رأسي وهي مني على ثلثي فرسخ، فجئت يومًا والنوى على رأسي فلقيت رسول الله ومعه نفر من الأنصار فدعاني، ثم قال: (أخ، أخ)؛ ليحملني خلفه، فاستحييت أن أسير مع الرجال، وذكرت الزبير وغيرته وكان أغير الناس، فعرف رسول الله أني قد استحييت فمضى، فجئت الزبير فقلت: لقيني رسول الله وعلى رأسي النوى، ومعه نفر من أصحابه، فأناخ لأركب، فاستحييت منه وعرفت غيرتك. فقال: والله لحملك النوى كان أشدَّ علي من ركوبك معه. قالت: حتى أرسل إليَّ أبو بكر بعد ذلك بخادم يكفيني سياسة الفرس، فكأنما أعتقني. أخرجه البخاري ومسلم.
ولما قال سعد بن عبادة ما قال قالت الأنصار: إنه رجل غيور، والله ما تزوج فينا قط إلا عذراء، ولا طلق امرأة له فاجترأ رجل منا أن يتزوجها من شدة غيرته. رواه البيهقي[22].
قال الشنقيطي - رحمه الله - : " كثير من البلاد التي تركت الصيانة صار نساؤها يخرجن متبرجات عاريات الأجسام إلا ما شاء الله؛ لأن الله نزع من رجالها صفة الرجولة والغيرة على حريمهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، نعوذ بالله من مسخ الضمير والذوق ومن كل سوء"[23].
فهذه النقولات تؤكد أنَّ ضياع الغيرة مُفْضٍ إلى ضياع الشرف والعفة، مُؤْذِن ببلاء عريض، ولذا كان الخسران جزاء من فقدها، قال: (ثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والدَّيُّوث[24]، ورَجُلَة النساء) رواه الطبراني والحاكم[25].، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: (إِنَّ اللَّهَ يَغَارُ، وَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَغَارُ، وَغَيْرَةُ اللَّهِ أَنْ يَأْتِيَ الْمُؤْمِنُ مَا حَرَّمَ عَلَيْهِ) رواه مسلم.
وجاء في حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: قال النبي: (رأيتني دخلت الجنة فإذا أنا بالرُّمَيْصَاء امرأة أبي طلحة، وسمعت خَشَفَةً ـ أي: حركة ـ فقلت: من هذا؟ فقال: هذا بلال، ورأيت قصرًا بفنائه جارية، فقلت: لمن هذا؟ فقالوا: لعمر، فأردت أن أدخله فأنظر إليه، فذكرت غيرتك، فولّيت مُدْبِرًا)، فبكى عمر وقال: بأبي وأمي يا رسول الله، أعليك أغار؟! متفق عليه[26]. أي: أعليها أغار منك؟! [27].