فلسطين ( 2 )
الخطبة الأولى
أما بعد:
فيا عباد الله اتقوا الله تعالى، أيها الأخوة المؤمنون:
ظل العالم الإسلامي بأسره مئات الأعوام وهو متجانسٌ متماسك، يشد بعضه أزر بعض، ويأرِز إلى عقيدته الجامعة كلما هدد كيانه خطر، أو أولهم عليه خطبٌ، منذ فقدان الأندلس، ومن ثَم ضعف وسقوط الخلافة العثمانية أخذت أرض الإسلام تنتقص من أطرافها، ففُقِدت أقطار وأمم، وانتهكت محارم ومقدساتها، ودارت رحى الحرب على المسلمين، وتداعت عليهم الأمم والشعوب، وصدق صلى الله عليه وسلم: ((يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: بل أنت يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قالوا: وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت)) [أخرجه أحمد وأبو داود].
نعم إخوتي إنه الوهن!! إنه الوهن!! وهو سر الضعف الأصيل حين يعيش الناس عبيداً لدنياهم عشاقاً لأوضاعهم الرتيبة، تحركهم الشهوات وتموج بهم وتسيرهم الرغائب المادية، إنه الوهن حين يكره المسلمون الموت، ويؤثرون حياة ذليلة على موت كريم، ويؤثرون حياة يموتون معها كل يوم موتات، على موت يحيون بعده حياة سرمدية، جبن في النفوس والقلوب، وانفعالية في الإرادة والتصرفات، وغرامٌ بالمتع الرخيصة في أدق الساعات وأحلك الأيام، وافتتان بالملاهي والرياضة والمعازف، وجبن عن المغامرة والإقدام، وشرع الحكم الإسلامي بالتراجع ومرتكزاته العلمية بالتداعي، فحلت البدع محل الإبداع، والتقليد محل التجديد، وزاحمت ظلمات الخرافة بدور التوحيد، وقامت رايات القومية العربية أو الاشتراكية أو الناصرية أو البعثية، تلكم باختصار إخوتي وصف لحال أمتنا العربية الإسلامية التي تبلّد حسّها بالرغم من كثرة مصائبها التي طالت شعوبها وأراضيها، بل وحتى مقدساتها، وتغيّب الأمة عن قضاياها لتفقد الخلق والإرادة، وتباع الأمة وحقها بمنافع شخصية سلطوية، وتزعزع روح التدين والأخلاق، فكيف كانت النتيجة؟ نعم كيف كانت النتيجة؟ لقد أصبحت الشعوب العربية والإسلامية غثاءً وركاماً لا يملكون حولاً ولا طولاً ولا قوة في مواجهة أعدائه، هذا إن عرف عدوّه حق المعرفة، ترى ما أسباب تبلد الشعور العربي، أحداث مأساوية، ودماء وأشلاء، أطفال تقتل في مهدها، ونساءٌ تنتهك حرماتها، وبيوت تهدم ليلاً فوق أهلها، أشجار الزيتون تقتلع من أرضها، بل أعظم من كل ذلك مقدسات على وشك الهدم بل دُنست، وأما سبيل المقاومة أمام المدرعة والدبابة والجند المدججين فهو الحجر، نعم لم يملك المسلمون سوى الحجر، إنها فلسطين حيث صور الدمار والدماء والجثث التي لا تملك وأنت تطالعها أو تسمع عنها إلا أن تتساءل ترى أين غابت نخوة المسلمين؟! أو نخوة العرب؟! أين غابت الثروات؟! هل تبلد الشعور في نفوسنا؟! ترى هل أمتنا غير تلك الأمة التي نطالع مجدها ونقرأ تاريخها الحامل بالانتصارات؟! إنها أسئلة بلا إجابة.
أمتـي هل لـك بين الأمـم …منبـرٌ للسـيف أو للقلـم
أتلقـاك وطـرفي مطـرق ….خجلا من أمسك المنصرم
كيف أغضيت على الذل ولم …تنفضـي عنك غبار التهم
رب وامعتصمـاه انطـلقت… ملـئ أفواه الصبايـا اليتم
لامسـت أسـماعهـم لكنها… لم تلامس نخوة المعتصم
أمتـي كـم صـنم مجدتـه …لم يكن يعرف طهر الصنم
لا يُلام الذئب فـي عدوانـه.... إن يك الراعـي عدو الغنم
إنها نكبة النكبات، إنها فلسطين في زمن التخاذلات، فلسطين، التي يدمى جرحها كل يوم فماذا فعلنا لها، ماذا قدمنا من تضحيات؟ وماذا فعلنا وحققنا بالتنازلات ؟ حتى عواطفنا تجاه إخواننا هناك ما لبثت أن انكمشت كنار سعفةٍ شبت ثم انطفأت، ثلاث وخمسون سنة من تاريخ صراعنا مع اليهود مع نكبة فلسطين، ثلاث وخمسون سنة وفلسطين ومقدساتها تحت ذل احتلال الصهاينة اليهود، ثلاث وخمسون سنة وأمتنا العربية من نكبة إلى نكسة إلى تشرذم إلى خلافات، ثلاث وخمسون سنة وأمتنا الإسلامية تنهش من أطرافها وأوساطها ويستغيث بنا المسلمون ولا مجيب.
ثلاث وخمسون سنة وإعلامنا العربي منشغل عن قضاياه المصيرية بالفن والرياضة ومسلسلات العهر والفجور، والاستهزاء بمسلمات ديننا الإسلامي، ثلاث وخمسون سنة وكل راية رفعت إلا راية الإسلام والجهاد في سبيل الله- الاّ من رحم الله وقليل ما هم - ، ثلاث وخمسون سنة وأبناء فلسطين في رباط دائم، ثلاثة وخمسون عاماً وبلدٌ إسلامي في الأرض المباركة [فلسطين] يعيش آلاماً وجراحاً، يعيش نكبات لم ينكب مثلها المسلمون منذ قرون، يعيش طرداً وحشياً لشعب آمن في أرضه وعمرانه، يعيش جريمة دولية تسمح لعصابات يهود أن تمارس القتل والتشريد بلا تمييز، ثلاث وخمسون سنة تعرت فيها الفدائيات المهترئة والمنظمات المتخاذلة وانكشفت فيها أكذوبة السلام وخداع أوسلو ومدريد، وكل اللقاءات والمؤتمرات واللجان والمبعوثين ورعاة السلام المزعومين، ثلاث وخمسون عاماً والحكاية ما تزال في بدايتها، غربٌ متآمر جوارٌ متخاذل، وأموال تتدفق على المعتدي الصهيوني.
ثلاثة وخمسون عاماً والبرابرة اليهود مع الخونة، والمتخاذلين من أعوانهم ينفذون نكبات جديدة من دير ياسين إلى دير البلح، وكفر قاسم وإحراق المسجد الأقصى ومذبحة صبرا وشاتيلا وعناقيد الغضب في قانا، إنه حاضرٌ يرتد إلى الماضي فكيف بدأت القصة؟!
أيها المسلمون: كان اليهود شراذم وأقليات في بقاعٍ شتى من العالم فعزموا على إعادة بناء أنفسهم بجدية، فأنشأو حركة صهيونية تعمل وفق خطة مدروسة واضحة المعالم بوصاية بريطانية وبدعم من قادتهم واجتمع هدف اليهود والنصارى اللذين لم ينسوا الأحزاب وخيبر وبلاط الشهداء وحطين [كهرتزل ووايز مان]، استطاعوا في مفصل تاريخي أن يعقدوا مؤتمر بازل قبل حوالي مائة سنة الذي انبثقت عنه المنظمة الصهيونية التي نجحت بالتحالف من الغرب بعد أن سيطرت على غالب ثرواته وتحكمت في إعلامية بأن كثفت الهجرة اليهودية إلى فلسطين ومن ثم استصدار وعد وزير خارجية بريطانيا بلفور عام سبعة عشر وتسعمائة وألف ميلادية بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين المستعمرة حينذاك من بريطانيا، هذا الوعد بأرض مستعمرة في فلسطين لتجمع شتات اليهود، وزادت المصيبة وعظمت حين أسقطت دولة الخلافة الإسلامية في عام أربعة وعشرين وتسعمائة وألف ميلادية.
وفي نهاية المطاف نجحت الصهيونية ليعلن بن غوريون إنشاء كيان دولة يهودية في فلسطين عام ألف وتسعمائة وثمانية وأربعين ميلادية، تسيطر على ثمانية وسبعين بالمائة من أرض فلسطين، هذه الدولة النشاز التي سارع إلى الاعتراف بها عدد من دول العالم الكافرة بمنظماته وهيئاته، وفي الوقت نفسه الذي يجتمع فيه اليهود شُرّد من مسلمي فلسطين حينذاك حوالي سبعمائة وخمسين ألفاً الذين ما زال معظمهم يعيشون في مخيمات بائسة بعد أن أصبح تعدادهم ثلاثة ملايين ونصف لاجئ، وفي سنة سبع وستين وتسعمائة وألف ميلادية استكمل الصهاينة احتلال باقي فلسطين مع عدد من الأراضي العربية.
ثم أصبحت إسرائيل دولة اعترف بها حتى بعض دول العالم الإسلامي وتعاملوا معها وتبادلوا معها السفراء والمكاتب التجارية في نفس الوقت الذي يقتل فيه المسلمون داخل فلسطين، تلكم هي قصة ثلاثة وخمسين عاماً من الصراع مع يهود، كان عدد اليهود في بدايته قليلاً وكان مشروعهم صغيراً، بإمكان المسلمين حينذاك القضاء عليه في مهده لو انتبهوا له وما انشغلوا عنه، لكن المشروع توسّع ولعله من قدر الله جل وعلا أن يضع هذه المنطقة في أتون الصراع لتجاهد في سبيل الله وتخرج العدو من الأراض المباركة، لقد استنجد أهل فلسطين في بدايات صراعهم مع اليهود بإخوانهم العرب والمسلمين وقامت التجارب الجهادية لأمة لا زال فيها عرق ينبض ورجال لا يقبلون الضيم، واشترك علماء وشباب ضحوا بأنفسهم في سبيل الله لمقاومة دولة يهودية، ودفاعاً عن المقدسات لكنها أُجهضت وحوربت من القريب قبل البعيد، وكان مسلمو فلسطين يصرخون ويستغيثون ويبيِّنون المؤامرة تلو المؤامرة فعقدت المؤتمرات الكثيرة وناقشوا القضية فتمخّض الدعم بالمال فقط إن وُجِد، واستجاب العالم العربي بدوله ومنظماته للجانٍ تأتي وتذهب ولا تستطيع أن تفعل شيئاً، لجانٌ ومندوبون برعاية كافرة من هيئة الأمم أو مجلس الأمن، وكانوا يصدرون القرارات ويعدونه ويحاورون ويناورون، ويَعِدُون العرب ولا يفون، والعرب لا يزالون ينتظرون، واليهود يماطلون بل استفادوا تسليحاً وتدريباً ونحن في غفلة ضائعون، وفي الوقت ذاته الذي كان يزداد فيه العرب ضعفاً وتخاذلاً فإن اليهود الصهاينة يزدادون قوة وتمكيناً، وضعفت المقاومة تجاه اليهود بل أصبحت الشعوب العربية ممنوعة حتى من الهتاف ضد إسرائيل، وتقمع لذلك.
ذلكم هو تاريخ القضية التي ما زالت تتنقل من نكبةٍ إلى نكبة.
أيها الأخوة المؤمنون: إنها دعوة للتأمل ودراسة الحال بحثاً عن العلاج، فإن المتأمل في مسيرة هذا الصراع تصدمه حقائق كبيرة يراد تصغيرها، ومعالم خطيرة يراد تحقيرها، منها أن الكيان الصهيوني الذي جعل الدين ركيزتها تنطلق منها السياسة، ظل يتنقل خلال مراحل الصراع من إنجازٍ إلى إنجازٍ ومن قوةٍ وانتشار، إلى مزيد من القوة والانتشار، في الوقت الذي ظلت فيه أكثر الكيانات العلمانية التي تصدرت للمعركة تتخبط في سيرها متنقلة من فشلٍ إلى فشل، ومن تنازل وخسارة إلى مزيد من التنازل والخسارة.
إن اليهود رفعوا منذ بدأت معركتهم رايةً واحدة هي راية التوراة، واندفعوا وراء غاية واحدة، هي أرض الميعاد، فأسموا دولتهم باسم نبي هو يعقوب عليه السلام أو [إسرائيل]، وجعلوا دستور دولتهم التوراة، وخاضوا معاركهم خلف الأحبار والحاخامات، وجعلوا لدولتهم بكل توجهاتها شعاراً واحداً هو نجمة داود وقبلتهم هيكل سليمان الذي يريدون بناءه مكان المسجد الأقصى كما يزعمون، إنها ثلاثةٌ وخمسون عاماً على قيام دولة يهودية أثبتت كل الشواهد خلالها الفشل الذريع، والهزائم المنكرة، والتراجع المذهل للاتجاه العلماني بأثوابه المتعددة من اشتراكيةٍ وقومية وتقدمية أو بعثية أو رافضية، إنّ الذي هُزم وتراجع أمام اليهودية ليس هو الإسلام، بل مسميات أخرى بعيدة عنه مشوّهة له، والذي ألقى السلاح وطلب الاستسلام ليس هو الإسلام بل العلمانية، الإسلام الذي لم يمكّن حتى الآن من التصدي لتلك المعركة العقائدية مع اليهود.
أيها الأخوة المؤمنون: بعد كل ذلك هل نستفيد من التاريخ؟! هل نرجع إلى الماضي لنقوّم الحاضر؟! هل لليل فلسطين من آخر؟ وهل لفجرها من موعدٍ؟! إن اليهود بما يملكون من قوى سياسيةٍ أو عسكرية أو اقتصادية أو إعلامية أو نظام مؤسسات هم أضعف بكثير مما يتصورهم عدد من الناس، لكننا لا نستطيع مواجهتهم والوهن كامنٌ في نفوسنا، والمهابة منزوعة من صدور أعدائنا، وإعلامهم ونظامهم ينسج الحقيقة من وجهة نظرهم وحدهم.
إننا لا نستطيع مواجهتهم إلا بالإسلام، وبالإسلام وحده ننتصر بإذن الله، وبالإسلام يتصحّح الخلل وتستمد أسباب النصر، ومقومات الصمود، فليس الصراع مع اليهود صراعاً موسمياً، بل بدأ صراعنا معهم مذ نبوة محمدٍ صلى الله عليه وسلم وجاهر بها أسلافهم بعد ذلك من بني قريظة وقينقاع وبني النضير وعبد الله بن سبأ وميمون القداح.
..
من مواضيع خطيب جمعه22 في المنتدى
0 خطب جمعه جاهزه ... اطبع واخطب
الخطبة الأولى
أما بعد:
فيا عباد الله اتقوا الله تعالى، أيها الأخوة المؤمنون:
ظل العالم الإسلامي بأسره مئات الأعوام وهو متجانسٌ متماسك، يشد بعضه أزر بعض، ويأرِز إلى عقيدته الجامعة كلما هدد كيانه خطر، أو أولهم عليه خطبٌ، منذ فقدان الأندلس، ومن ثَم ضعف وسقوط الخلافة العثمانية أخذت أرض الإسلام تنتقص من أطرافها، ففُقِدت أقطار وأمم، وانتهكت محارم ومقدساتها، ودارت رحى الحرب على المسلمين، وتداعت عليهم الأمم والشعوب، وصدق صلى الله عليه وسلم: ((يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: بل أنت يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قالوا: وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت)) [أخرجه أحمد وأبو داود].
نعم إخوتي إنه الوهن!! إنه الوهن!! وهو سر الضعف الأصيل حين يعيش الناس عبيداً لدنياهم عشاقاً لأوضاعهم الرتيبة، تحركهم الشهوات وتموج بهم وتسيرهم الرغائب المادية، إنه الوهن حين يكره المسلمون الموت، ويؤثرون حياة ذليلة على موت كريم، ويؤثرون حياة يموتون معها كل يوم موتات، على موت يحيون بعده حياة سرمدية، جبن في النفوس والقلوب، وانفعالية في الإرادة والتصرفات، وغرامٌ بالمتع الرخيصة في أدق الساعات وأحلك الأيام، وافتتان بالملاهي والرياضة والمعازف، وجبن عن المغامرة والإقدام، وشرع الحكم الإسلامي بالتراجع ومرتكزاته العلمية بالتداعي، فحلت البدع محل الإبداع، والتقليد محل التجديد، وزاحمت ظلمات الخرافة بدور التوحيد، وقامت رايات القومية العربية أو الاشتراكية أو الناصرية أو البعثية، تلكم باختصار إخوتي وصف لحال أمتنا العربية الإسلامية التي تبلّد حسّها بالرغم من كثرة مصائبها التي طالت شعوبها وأراضيها، بل وحتى مقدساتها، وتغيّب الأمة عن قضاياها لتفقد الخلق والإرادة، وتباع الأمة وحقها بمنافع شخصية سلطوية، وتزعزع روح التدين والأخلاق، فكيف كانت النتيجة؟ نعم كيف كانت النتيجة؟ لقد أصبحت الشعوب العربية والإسلامية غثاءً وركاماً لا يملكون حولاً ولا طولاً ولا قوة في مواجهة أعدائه، هذا إن عرف عدوّه حق المعرفة، ترى ما أسباب تبلد الشعور العربي، أحداث مأساوية، ودماء وأشلاء، أطفال تقتل في مهدها، ونساءٌ تنتهك حرماتها، وبيوت تهدم ليلاً فوق أهلها، أشجار الزيتون تقتلع من أرضها، بل أعظم من كل ذلك مقدسات على وشك الهدم بل دُنست، وأما سبيل المقاومة أمام المدرعة والدبابة والجند المدججين فهو الحجر، نعم لم يملك المسلمون سوى الحجر، إنها فلسطين حيث صور الدمار والدماء والجثث التي لا تملك وأنت تطالعها أو تسمع عنها إلا أن تتساءل ترى أين غابت نخوة المسلمين؟! أو نخوة العرب؟! أين غابت الثروات؟! هل تبلد الشعور في نفوسنا؟! ترى هل أمتنا غير تلك الأمة التي نطالع مجدها ونقرأ تاريخها الحامل بالانتصارات؟! إنها أسئلة بلا إجابة.
أمتـي هل لـك بين الأمـم …منبـرٌ للسـيف أو للقلـم
أتلقـاك وطـرفي مطـرق ….خجلا من أمسك المنصرم
كيف أغضيت على الذل ولم …تنفضـي عنك غبار التهم
رب وامعتصمـاه انطـلقت… ملـئ أفواه الصبايـا اليتم
لامسـت أسـماعهـم لكنها… لم تلامس نخوة المعتصم
أمتـي كـم صـنم مجدتـه …لم يكن يعرف طهر الصنم
لا يُلام الذئب فـي عدوانـه.... إن يك الراعـي عدو الغنم
إنها نكبة النكبات، إنها فلسطين في زمن التخاذلات، فلسطين، التي يدمى جرحها كل يوم فماذا فعلنا لها، ماذا قدمنا من تضحيات؟ وماذا فعلنا وحققنا بالتنازلات ؟ حتى عواطفنا تجاه إخواننا هناك ما لبثت أن انكمشت كنار سعفةٍ شبت ثم انطفأت، ثلاث وخمسون سنة من تاريخ صراعنا مع اليهود مع نكبة فلسطين، ثلاث وخمسون سنة وفلسطين ومقدساتها تحت ذل احتلال الصهاينة اليهود، ثلاث وخمسون سنة وأمتنا العربية من نكبة إلى نكسة إلى تشرذم إلى خلافات، ثلاث وخمسون سنة وأمتنا الإسلامية تنهش من أطرافها وأوساطها ويستغيث بنا المسلمون ولا مجيب.
ثلاث وخمسون سنة وإعلامنا العربي منشغل عن قضاياه المصيرية بالفن والرياضة ومسلسلات العهر والفجور، والاستهزاء بمسلمات ديننا الإسلامي، ثلاث وخمسون سنة وكل راية رفعت إلا راية الإسلام والجهاد في سبيل الله- الاّ من رحم الله وقليل ما هم - ، ثلاث وخمسون سنة وأبناء فلسطين في رباط دائم، ثلاثة وخمسون عاماً وبلدٌ إسلامي في الأرض المباركة [فلسطين] يعيش آلاماً وجراحاً، يعيش نكبات لم ينكب مثلها المسلمون منذ قرون، يعيش طرداً وحشياً لشعب آمن في أرضه وعمرانه، يعيش جريمة دولية تسمح لعصابات يهود أن تمارس القتل والتشريد بلا تمييز، ثلاث وخمسون سنة تعرت فيها الفدائيات المهترئة والمنظمات المتخاذلة وانكشفت فيها أكذوبة السلام وخداع أوسلو ومدريد، وكل اللقاءات والمؤتمرات واللجان والمبعوثين ورعاة السلام المزعومين، ثلاث وخمسون عاماً والحكاية ما تزال في بدايتها، غربٌ متآمر جوارٌ متخاذل، وأموال تتدفق على المعتدي الصهيوني.
ثلاثة وخمسون عاماً والبرابرة اليهود مع الخونة، والمتخاذلين من أعوانهم ينفذون نكبات جديدة من دير ياسين إلى دير البلح، وكفر قاسم وإحراق المسجد الأقصى ومذبحة صبرا وشاتيلا وعناقيد الغضب في قانا، إنه حاضرٌ يرتد إلى الماضي فكيف بدأت القصة؟!
أيها المسلمون: كان اليهود شراذم وأقليات في بقاعٍ شتى من العالم فعزموا على إعادة بناء أنفسهم بجدية، فأنشأو حركة صهيونية تعمل وفق خطة مدروسة واضحة المعالم بوصاية بريطانية وبدعم من قادتهم واجتمع هدف اليهود والنصارى اللذين لم ينسوا الأحزاب وخيبر وبلاط الشهداء وحطين [كهرتزل ووايز مان]، استطاعوا في مفصل تاريخي أن يعقدوا مؤتمر بازل قبل حوالي مائة سنة الذي انبثقت عنه المنظمة الصهيونية التي نجحت بالتحالف من الغرب بعد أن سيطرت على غالب ثرواته وتحكمت في إعلامية بأن كثفت الهجرة اليهودية إلى فلسطين ومن ثم استصدار وعد وزير خارجية بريطانيا بلفور عام سبعة عشر وتسعمائة وألف ميلادية بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين المستعمرة حينذاك من بريطانيا، هذا الوعد بأرض مستعمرة في فلسطين لتجمع شتات اليهود، وزادت المصيبة وعظمت حين أسقطت دولة الخلافة الإسلامية في عام أربعة وعشرين وتسعمائة وألف ميلادية.
وفي نهاية المطاف نجحت الصهيونية ليعلن بن غوريون إنشاء كيان دولة يهودية في فلسطين عام ألف وتسعمائة وثمانية وأربعين ميلادية، تسيطر على ثمانية وسبعين بالمائة من أرض فلسطين، هذه الدولة النشاز التي سارع إلى الاعتراف بها عدد من دول العالم الكافرة بمنظماته وهيئاته، وفي الوقت نفسه الذي يجتمع فيه اليهود شُرّد من مسلمي فلسطين حينذاك حوالي سبعمائة وخمسين ألفاً الذين ما زال معظمهم يعيشون في مخيمات بائسة بعد أن أصبح تعدادهم ثلاثة ملايين ونصف لاجئ، وفي سنة سبع وستين وتسعمائة وألف ميلادية استكمل الصهاينة احتلال باقي فلسطين مع عدد من الأراضي العربية.
ثم أصبحت إسرائيل دولة اعترف بها حتى بعض دول العالم الإسلامي وتعاملوا معها وتبادلوا معها السفراء والمكاتب التجارية في نفس الوقت الذي يقتل فيه المسلمون داخل فلسطين، تلكم هي قصة ثلاثة وخمسين عاماً من الصراع مع يهود، كان عدد اليهود في بدايته قليلاً وكان مشروعهم صغيراً، بإمكان المسلمين حينذاك القضاء عليه في مهده لو انتبهوا له وما انشغلوا عنه، لكن المشروع توسّع ولعله من قدر الله جل وعلا أن يضع هذه المنطقة في أتون الصراع لتجاهد في سبيل الله وتخرج العدو من الأراض المباركة، لقد استنجد أهل فلسطين في بدايات صراعهم مع اليهود بإخوانهم العرب والمسلمين وقامت التجارب الجهادية لأمة لا زال فيها عرق ينبض ورجال لا يقبلون الضيم، واشترك علماء وشباب ضحوا بأنفسهم في سبيل الله لمقاومة دولة يهودية، ودفاعاً عن المقدسات لكنها أُجهضت وحوربت من القريب قبل البعيد، وكان مسلمو فلسطين يصرخون ويستغيثون ويبيِّنون المؤامرة تلو المؤامرة فعقدت المؤتمرات الكثيرة وناقشوا القضية فتمخّض الدعم بالمال فقط إن وُجِد، واستجاب العالم العربي بدوله ومنظماته للجانٍ تأتي وتذهب ولا تستطيع أن تفعل شيئاً، لجانٌ ومندوبون برعاية كافرة من هيئة الأمم أو مجلس الأمن، وكانوا يصدرون القرارات ويعدونه ويحاورون ويناورون، ويَعِدُون العرب ولا يفون، والعرب لا يزالون ينتظرون، واليهود يماطلون بل استفادوا تسليحاً وتدريباً ونحن في غفلة ضائعون، وفي الوقت ذاته الذي كان يزداد فيه العرب ضعفاً وتخاذلاً فإن اليهود الصهاينة يزدادون قوة وتمكيناً، وضعفت المقاومة تجاه اليهود بل أصبحت الشعوب العربية ممنوعة حتى من الهتاف ضد إسرائيل، وتقمع لذلك.
ذلكم هو تاريخ القضية التي ما زالت تتنقل من نكبةٍ إلى نكبة.
أيها الأخوة المؤمنون: إنها دعوة للتأمل ودراسة الحال بحثاً عن العلاج، فإن المتأمل في مسيرة هذا الصراع تصدمه حقائق كبيرة يراد تصغيرها، ومعالم خطيرة يراد تحقيرها، منها أن الكيان الصهيوني الذي جعل الدين ركيزتها تنطلق منها السياسة، ظل يتنقل خلال مراحل الصراع من إنجازٍ إلى إنجازٍ ومن قوةٍ وانتشار، إلى مزيد من القوة والانتشار، في الوقت الذي ظلت فيه أكثر الكيانات العلمانية التي تصدرت للمعركة تتخبط في سيرها متنقلة من فشلٍ إلى فشل، ومن تنازل وخسارة إلى مزيد من التنازل والخسارة.
إن اليهود رفعوا منذ بدأت معركتهم رايةً واحدة هي راية التوراة، واندفعوا وراء غاية واحدة، هي أرض الميعاد، فأسموا دولتهم باسم نبي هو يعقوب عليه السلام أو [إسرائيل]، وجعلوا دستور دولتهم التوراة، وخاضوا معاركهم خلف الأحبار والحاخامات، وجعلوا لدولتهم بكل توجهاتها شعاراً واحداً هو نجمة داود وقبلتهم هيكل سليمان الذي يريدون بناءه مكان المسجد الأقصى كما يزعمون، إنها ثلاثةٌ وخمسون عاماً على قيام دولة يهودية أثبتت كل الشواهد خلالها الفشل الذريع، والهزائم المنكرة، والتراجع المذهل للاتجاه العلماني بأثوابه المتعددة من اشتراكيةٍ وقومية وتقدمية أو بعثية أو رافضية، إنّ الذي هُزم وتراجع أمام اليهودية ليس هو الإسلام، بل مسميات أخرى بعيدة عنه مشوّهة له، والذي ألقى السلاح وطلب الاستسلام ليس هو الإسلام بل العلمانية، الإسلام الذي لم يمكّن حتى الآن من التصدي لتلك المعركة العقائدية مع اليهود.
أيها الأخوة المؤمنون: بعد كل ذلك هل نستفيد من التاريخ؟! هل نرجع إلى الماضي لنقوّم الحاضر؟! هل لليل فلسطين من آخر؟ وهل لفجرها من موعدٍ؟! إن اليهود بما يملكون من قوى سياسيةٍ أو عسكرية أو اقتصادية أو إعلامية أو نظام مؤسسات هم أضعف بكثير مما يتصورهم عدد من الناس، لكننا لا نستطيع مواجهتهم والوهن كامنٌ في نفوسنا، والمهابة منزوعة من صدور أعدائنا، وإعلامهم ونظامهم ينسج الحقيقة من وجهة نظرهم وحدهم.
إننا لا نستطيع مواجهتهم إلا بالإسلام، وبالإسلام وحده ننتصر بإذن الله، وبالإسلام يتصحّح الخلل وتستمد أسباب النصر، ومقومات الصمود، فليس الصراع مع اليهود صراعاً موسمياً، بل بدأ صراعنا معهم مذ نبوة محمدٍ صلى الله عليه وسلم وجاهر بها أسلافهم بعد ذلك من بني قريظة وقينقاع وبني النضير وعبد الله بن سبأ وميمون القداح.
..
من مواضيع خطيب جمعه22 في المنتدى
0 خطب جمعه جاهزه ... اطبع واخطب