ملخص الخطبة
1- صدق الله تعالى. 2- الصدق من صفات الأنبياء والمرسلين. 3- وجوب الصدق. 4- الحاجة إلى الصدق. 5- فضائل الصدق. 6- التحذير من التهاون بهذا المبدأ. 7- محمد الصادق الأمين. 8- تحريم الكذب وذمه. 9- من أنواع الكذب. 10- أهمية الصدق في البيع والشراء. 11- خطورة الشائعات.
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فإنَّ التقوى خير وصية، وخير لباس وأكرم سجية، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70، 71].
رحِم الله امرَأً أصلَح من لِسانه، وأقصرَ من عِنانه، وألزم طريقَ الحقِّ مِقوَلَه، ولم يُعوِّدِ الخَطَل مفصلَه.
أيّها المسلمون، حديثُ اليوم حديثٌ عن خَلَّة هي سيِّدة الأخلاق وجامعةُ الفضائل ورأس الشمائل، تمدَّح الله بها في كتابه فقال سبحانه: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثًا [النساء: 87]، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً [النساء: 122]، وقال: قُلْ صَدَقَ اللهُ [آل عمران: 95].
وصفَ الله بالصدق رسلَه وأنبياءَه وأصفياءَه وأولياءَه فقال سبحانه: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيًّا [مريم: 54]، وقال لعبادِه أجمعين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة: 119].
أيُّها المسلمون، صِفةُ الصِّدق ليست نَفلاً ولا خِيارًا، إنها فريضةٌ على المسلم وسَجيةٌ للمؤمن، والذي يجِب أن يكونَ باطنه وظاهرُه سواءً في الصدق والوُضوح والطهارة والصفاء.
ومعَ بساطة هذه الصفةِ وإجماعِ الخَلق عليها إلا أننا اليومَ أحوجُ ما نكون إلى التواصِي بالالتزام بها في خِضَمّ أزمة الأخلاق التي يعاني منها الكثيرُ لأسبابٍ يأتي في مقدمها ضعف الإيمان وضعفُ التربية والتهافتُ على الدنيا.
الصدقُ -أيها المؤمنون- محمَدةٌ في الدنيا والآخرة وعلامة التقوى وسببٌ لتكفير السيئات ورِفعة الدرجات، وكلّ ذلك مجموعٌ في قول الله عز وجل: وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ [الزمر: 33-35]، أما في يوم الجزاء فاسمع قولَ الله تعالى: قَالَ اللهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [المائدة: 119].
الصّدقُ فضلٌ ونبلٌ ودَربٌ مضيء ونَفسٌ سامية، وصاحبُه موفَّقٌ أبدًا لكلِّ خير.
وتأمَّلوا -أيها المسلمون- هذا الحديث: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبيِّ أنه قال: ((إنّ الصدقَ يهدِي إلى البر، وإنَّ البرَّ يهدي إلى الجنّة، وإنَّ الرجلَ لَيصْدُقَ حتى يكونَ صدِّيقًا، وإنّ الكذبَ يهدي إلى الفجور، وإنَّ الفجورَ يهدي إلى النار، وإنَّ الرجلَ ليكذِبَ حتّى يُكتبَ عنْد اللهِ كذَّابًا)) رواه البخاري ومسلم، وفي رواية لمسلم: ((ولا يزالُ الرَّجلُ يصدُقُ ويتحرَّى الصدقَ حتى يُكتَبَ عنْدَ اللهِ صدِّيقًا، ولا يزالُ الرَّجل يكذِبُ ويتحرَّى الكَذِبَ حتى يُكْتبَ عندَ اللهِ كذَّابَا)).
إنِّ الصدقَ هادٍ لكل برّ، قائدٌ لكل خير، آخذٌ بصاحبه في مسالك الهدى حتى يدخلَه الجنّةَ، كيف لا وهو صادقُ اللهجةِ صادق الحالِ متحرٍّ للحق في كلّ الأقوال والأفعال؟! إنه يصدق ويتحرَّى الصدق ويلتزمه ويحتاط له ويزن كلماتِه ويتباعَد عن الخطأ ويتحرَّج من الزلل، فلا تنطوي نفسه على خبيئة أو خيانة حتى يُكتبَ عند الله صدِّيقًا. وأيّ منزلةٍ يرجوها المسلمُ بعد هذا؟! إنهم رِفاق الأنبياء والشهداء، فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا [النساء: 69].
أيّها المسلم، وحتى يتبيَّن لك أثرُ الصدق في القلب وبأيّ شيء استحقَّ الصادقون مرافقَة الأنبياء فتأمَّل أيضًا هذا الحديث الصحيح: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ قال: ((إذا اقتربَ الزمانُ لم تكدْ رؤيا المسلمُ تكذِب، وأصدقُكُم رؤيا أصدقُكُمْ حديثًا، ورؤيا المسلمِ جزءٌ من ستةٍ وأربعين جزءًا من النُّبوَّة)) الحديث رواه البخاري ومسلم. تأمّل، الرؤيا الصادقة جزءٌ من النبوَّة، وتكون في القلب الصادقِ الذي سما وتطهَّر، فاستضاء واستنار بنور الله، ففُتِحتْ له سُدفُ الغيبِ وأعْلمَهُ اللهُ بما شَاء.
أيّها المسلمون، من لزِم الصدقَ في صغَره كان له في الكبرِ ألْزَم، ومن اعتصَم به في حقّ نفسه كان في حقّ الله أعصم، ومن تحرَّى الصدق هُدِي إليه وطابت نفسه وطهُرتْ سريرته وأضاء قلبُه.
عبادَ الله، إنه لا يصحّ التهاونُ في هذا المبدأ، فهو أساسٌ في ديننا، وقد كان عُنوانًا لقدوتنا وأسوتنا محمّدٍ ، والذي كانت حياته أفضلَ مثالٍ للإنسان الكامِل الذي اتَّخذ من الصدق في القول والأمانة في المعاملة خطًّا ثابتًا لا يحيد عنه قيدَ أنملة، وقد كان ذلك فيه بمثابةِ السجيةِ والطبع، فعُرِف به حتى قبل البعثة، ولُقِّب بالصادق الأمين، واشتُهِر بهذا وعُرِف به بين الناس، ولما أُمِر بالجهر بالدعوة وتبليغ الرسالة جمَع الناسَ وسألهم عن مدى تصديقهم له إذا أخبرهم بأمر، فأجابوا بما عرفوا عنه قائلين: ما جرَّبنا عليك إلا صدقًا.
وانظر إلى هذا الموقفِ من حياةٍ كلّها صدقٌ ونبلٌ ووفاء: عن عبد الله بن أبي الحمساء قال: بايعتُ النبي ببيعٍ قبل أن يُبعَث، وبقيَت له بقيّة، فوعدتُه أن آتيَه بها في مكانه، فنسيتُ، ثم ذكرتُ بعد ثلاث، فجئت فإذا هو في مكانه، فقال: ((يا فتى، لقد شَققْت علَيّ، أنا ها هُنا منذ ثلاث أنتظِرُك)) رواه أبو داود. ثلاثة أيام وهو يأتي في نفس الموعِد إلى المكان المتَّفق عليه وفاءً وصِدقًا.
واستمرَّ هذا المبدأ الراسخ معه منذ طفولته حتى توفِّي ، لم يكذب كِذبةً واحدة، بل كان الكذِب أبغضَ خلقٍ إليه، قالت عائشة رضي الله عنها: ما كان مِن خلقٍ أبغَض إلى رسول الله من الكذب، ولقد كان الرجل يكذِب عنده الكِذبة فما يزالُ في نفسهِ حتى يعلَمَ أنه قدْ أحدَث فيها توبة. أخرجه الإمام أحمد وابن حبان.
ذلكم أنّ الكذب -يا عباد الله- صفةٌ دنيئة وخلقٌ لئيم، وقد يكون للبخيل أو الجبان ما يعذره، لكن ليس للكذاب عذر، روى صفوان بن سليم قال: قيل للنبي : أيكون المؤمن جبانًا؟ قال: ((نعم))، قيل: أفيكون بخيلا؟ قال: ((نعم))، قيل: أفيكون كذّابا؟ قال: ((لا)) رواه الإمام مالك في الموطأ وفي سنده مقال، ويعضُده ويبيّنه الحديثُ الآخر في مسندِ الإمام أحمد عن أبي أمامةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((يُطْبعُ المؤمنُ على الخلالِ كلِّهَا إلا الخيانةَ والكذِب)).
قال النوويّ رحمه الله: "قد تظاهرت نصوصُ الكتاب والسنة على تحريم الكذب في الجملة، وهو من قبائح الذنوب وفواحشِ العيوب، وإجماعُ الأمة منعقِدٌ على تحريمه مع النصوص المتظاهرة"، ثم قال رحمه الله: "ويكفي في التنفيرِ منه الحديث المتفقُ على صحته عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((آيةُ المنافقِ ثلاث: إذا حدَّث كَذب، وإذا وعدَ أخْلفَ، وإذا اؤتمِن خان))، وعن عبد الله بن عمروٍ رضي الله عنه: أن النبي قال: ((أربعٌ من كُنَّ فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خَصْلَةٌ منهن كانتْ فيه خصلةٌ من النِّفاقِ حتى يَدَعَهَا: إذا اؤتمنَ خَان، وإذَا حدَّثَ كَذَب، وإِذا عَاهَدَ غَدَر، وإذَا خاصَمَ فَجَر)) رواه البخاري ومسلم".
الكذب يُنقِص الإيمان، قال الله عز وجل: إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ [النحل: 105]، بل إن الكاذب معرَّضٌ للَّعن: ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ [آل عمران: 61].
الخَرَس خيرٌ من الكذب، وصِدقُ اللسان أوّل السعادة، وما من شيء إذا فكَّرتَ فيه بأذهَبَ للمروءة والجمال وأبعَد بالبهاء منَ الرجال من الكذب، فالكذب جماعُ كلّ شرّ وأصل كلّ ذنب، وصغيرُه يجرّ إلى كبيره، وقد قالت الحكماء: "مَنْ استحلى رَضاعَ الكذبِ عسُر فطامُه"؛ لذلك كان النبيّ يذمّه مهما كان يسيرًا، ويُنفِّر من الكذِب حتى على الصغار لأجل أن يشبّوا على الصدق ويألفوه ويتباعَدوا عن الكذب ويأنفوه، عن عبد الله بن عامرٍ أنه قال: دعَتني أمّي يومًا ورسول الله قاعدٌ في بيتنا، فقالت: ها تعالَ أعطيك، فقال لها رسول الله : ((وما أردْتِ أنْ تعطِيه؟)) قالت: أُعطيهِ تمرًا، فقال لها رسول الله : ((أما إنَّكِ لوْ لم تعطِه شيئًا كُتِبَتْ عليكِ كذِبة)) رواه أبو داود بإسناد حسن، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله أنه قال: ((من قالَ لصبيٍّ: تعالَ هاكَ ثم لم يعطِه فهي كِذبَة)) رواه الإمام أحمد بإسنادٍ صحيح.
فانظر كيف يعلِّم الرسولُ الآباءَ والأمهاتِ أن يُنشِئوا أولادَهم تنشئةً يقدِّسون فيها الصدق ويتنزَّهون عن الكذِب، ولو أنه تجاوَز عن هذه الأمورِ وحسبَها من التوافه الهيِّنة لخُشِي أن يكبر الأطفال وهم يعتبرون الكذب ذنبا صغيرًا وهو عند الله عظيم.
وقد سارت هذه الصرامةُ في تحرِّي الحقّ ورعاية الصدقِ حتى تناوَلت الشؤونَ المنزلية الصغيرة، عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها قالت: يا رسول الله، إنْ قالتْ إحدَانا لشيءٍ تشْتهِيه: لا أشْتهيه يُعدُّ ذلك كذِبًا؟ قال: ((إنَّ الكذِبَ يُكتَبُ كذِبًا حتّى تُكتَبُ الكُذَيبةُ كُذَيْبة)) أخرجه الإمام أحمد والطبراني في الكبير.
إنّه لا تهاونَ في مبدأ الكذب حتى ولو كان للتسليَة أو المزاح، عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جدِّه رضي الله عنهم قال: سمعتُ رسول الله يقول: ((ويلٌ للذِي يحدِّثُ بالحديثِ ليُضحِكَ بهِ القوم فيكْذِب، ويلٌ له، ويلٌ له)) رواه أحمد وأبو داود والترمذيّ والنسائيّ، وقال الترمذي: "حسنٌ صحيح". ولفظ أبي داود: ((ويلٌ للَّذي يحدِّثُ فيكذِبُ ليُضْحِكَ القوم، ويلٌ له، ويلٌ له)).
فإذا كان هذا فيما يستسهل فما ظنُّك بأشنع الكذب؟! وهو الكذب على الله أو على رسوله، قال الله عز وجل: وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ [الزمر: 60]، وقال : ((مَنْ كذب عليَّ متعمِّدًا فلْيتبوّأ مقعدَهُ مِنَ النَّار)) متفق عليه.
يلي ذلك ما كان ضررُه عامًّا؛ كالكذب الذي يطال مصالحَ الأمة وقضاياها الكبار أو يحدِث بلبلة في صفوف المجتمع وينشر الفوضى ويعدِم الثقةَ ويُلبس الحقَّ بالباطل؛ سيّما مع وجودِ وسائل النشرِ العامّة وسرعة انتشار المعلومة، فتجد شبكةَ معلومات تطلِق الإشاعات، وترى إعلامًا يكذب وصُحُفًا تحرّف، فيعزّ الصدق وسط هذا الرّكام، وإذا اختلطتِ الحقائقُ صار الناسُ على غير هدى، وقد رأى النبيُّ عذابَ من ينشُر كِذبتَه فقال: ((وأما الرجلُ الذي أتيتَ عليه يُشرْشَرُ شِدْقُه إلى قفاه ومِنْخَرُه إلى قفاه وعَينُه إلى قفاه فإنّه الرجلُ يغدو من بَيتِه فيَكذِب الكذبة تبلغُ الآفاق)) رواه البخاري.
وربما يأتي الكذِب من مَصدرٍ يعتقِد السامعُ صدقَه، فيبني عليه مواقفَه، فيحصل من البلاء والضرر ما لا يعلمه إلا الله، وربما هدِمت بيوتٌ وشتِّتَت أسر أو أريقت دِماء لأجلِ نقلٍ كاذب أو وِشاية غادِرة، وفي الحديث: ((كبُرتْ خيانةً أنْ تحدِّثَ أخاك حديثًا هو لك به مصدِّق وأنت له به كاذِب)) رواه أبو داود.
عبادَ الله، الصِّدق بركة والكذِب محق، وعند البيع والشراء يحضُر الطمَع ويقلّ الورع؛ لذا كان التوجيه الكريم واعظًا في هذا المقام، عن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((البيِّعان بالخيارِ ما لمْ يتفرقَا -أو قال: حتى يتفرَّقا-، فإنْ صدقَا وبيَّنا بُورِك لهما في بَيعهِما، وإنْ كتَمَا وكذَبا مُحِقت بركةُ بيعهِما)) رواه البخاري ومسلم. وقد بوب البخاري في صححيه لهذا الحديث بقوله: "باب: ما يمحَق الكذب والكتمان في البيع".
وعن رفاعةَ رضي الله عنه أنه خرج مع النبيِّ إلى المصلَّى، فرأى الناس يتبايعون، فقال: ((يا معشر التُّجار))، فاستجابوا لرسول الله ، ورفعوا أعناقهم وأبصارهم إليه، فقال: ((إن التجار يُبعَثون يومَ القيامةِ فجَّارا إلا مَن اتقى الله وبرَّ وصدق)) رواه الترمذيّ وابن ماجه، وقال الترمذي: "هذا حديثٌ حسن صحيح".
ألا فاجعَلوا الصدقَ لكم شعارًا ودِثارًا، والزَموه إعلانًا وإِسرارًا؛ يجعَلِ الله التقوى في قلوبكم والتوفيقَ والنورَ في دروبكم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة: 119].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبد الله ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أمّا بعد: أيّها المسلمون، فأطْرُ النفس على الصدقِ وإلزامُها به ومراقبةُ الله تعالى في السرِّ والعلَن والتزامُ التقوى دوافع للإنسان أن يكونَ الصدق له سجيةً.
إشاعةُ الصدق في المجتمع ونبذُ الكذّابين خاصّة في وسائل النشر العامة ومصادرِ التلقّي واجبٌ على المجتمع. إنه من السيِّئ أن يعتادَ الناسُ على من يكذِب ويبقَى حاضرًا مؤثِّرا بقلمِه أو لسانه أو وسيلتِه الإعلامية. إنه قد يوجَد في أيّ مكان من يكذب، لكن لا يجوز أن يبقَى الكذِب أو يُعتاد على وجودِه.
لقد كانتِ الشريعةُ حاسمةً في هذا الجانب، وكان من عقوبةِ القاذف في القرآن العظيم الجلد والتشهير بالفسق، وقال الله أيضا: وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا [النور: 4]. إنه حجرٌ على وباء وإقصاءٌ لداء.
كما أنَّ للقدوة تأثيرًا كبيرًا في هذا الجانِب، وكم يغفَل الأبُ أو الأمّ أو المعلِّم حين يتساهل في الصّدق ولا يشعرُ أن الناشِئ يلتقط منه بوعيٍ أو بدون وعي ويتربى على هذا الخلُق أو ذاك.
الصدقُ ثقافةُ مجتمع ومسؤولية كل فرد، ((وهَلْ يكبُّ الناسَ في النّارِ على وجوهِهِم إلا حصائدُ ألسنتِهمْ)).
هذا، وصلُّوا وسلِّموا على خير البرية وأزكى البشرية محمّدٍ بن عبد الله الهاشميّ القرشيّ...
1- صدق الله تعالى. 2- الصدق من صفات الأنبياء والمرسلين. 3- وجوب الصدق. 4- الحاجة إلى الصدق. 5- فضائل الصدق. 6- التحذير من التهاون بهذا المبدأ. 7- محمد الصادق الأمين. 8- تحريم الكذب وذمه. 9- من أنواع الكذب. 10- أهمية الصدق في البيع والشراء. 11- خطورة الشائعات.
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فإنَّ التقوى خير وصية، وخير لباس وأكرم سجية، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70، 71].
رحِم الله امرَأً أصلَح من لِسانه، وأقصرَ من عِنانه، وألزم طريقَ الحقِّ مِقوَلَه، ولم يُعوِّدِ الخَطَل مفصلَه.
أيّها المسلمون، حديثُ اليوم حديثٌ عن خَلَّة هي سيِّدة الأخلاق وجامعةُ الفضائل ورأس الشمائل، تمدَّح الله بها في كتابه فقال سبحانه: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثًا [النساء: 87]، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً [النساء: 122]، وقال: قُلْ صَدَقَ اللهُ [آل عمران: 95].
وصفَ الله بالصدق رسلَه وأنبياءَه وأصفياءَه وأولياءَه فقال سبحانه: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيًّا [مريم: 54]، وقال لعبادِه أجمعين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة: 119].
أيُّها المسلمون، صِفةُ الصِّدق ليست نَفلاً ولا خِيارًا، إنها فريضةٌ على المسلم وسَجيةٌ للمؤمن، والذي يجِب أن يكونَ باطنه وظاهرُه سواءً في الصدق والوُضوح والطهارة والصفاء.
ومعَ بساطة هذه الصفةِ وإجماعِ الخَلق عليها إلا أننا اليومَ أحوجُ ما نكون إلى التواصِي بالالتزام بها في خِضَمّ أزمة الأخلاق التي يعاني منها الكثيرُ لأسبابٍ يأتي في مقدمها ضعف الإيمان وضعفُ التربية والتهافتُ على الدنيا.
الصدقُ -أيها المؤمنون- محمَدةٌ في الدنيا والآخرة وعلامة التقوى وسببٌ لتكفير السيئات ورِفعة الدرجات، وكلّ ذلك مجموعٌ في قول الله عز وجل: وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ [الزمر: 33-35]، أما في يوم الجزاء فاسمع قولَ الله تعالى: قَالَ اللهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [المائدة: 119].
الصّدقُ فضلٌ ونبلٌ ودَربٌ مضيء ونَفسٌ سامية، وصاحبُه موفَّقٌ أبدًا لكلِّ خير.
وتأمَّلوا -أيها المسلمون- هذا الحديث: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبيِّ أنه قال: ((إنّ الصدقَ يهدِي إلى البر، وإنَّ البرَّ يهدي إلى الجنّة، وإنَّ الرجلَ لَيصْدُقَ حتى يكونَ صدِّيقًا، وإنّ الكذبَ يهدي إلى الفجور، وإنَّ الفجورَ يهدي إلى النار، وإنَّ الرجلَ ليكذِبَ حتّى يُكتبَ عنْد اللهِ كذَّابًا)) رواه البخاري ومسلم، وفي رواية لمسلم: ((ولا يزالُ الرَّجلُ يصدُقُ ويتحرَّى الصدقَ حتى يُكتَبَ عنْدَ اللهِ صدِّيقًا، ولا يزالُ الرَّجل يكذِبُ ويتحرَّى الكَذِبَ حتى يُكْتبَ عندَ اللهِ كذَّابَا)).
إنِّ الصدقَ هادٍ لكل برّ، قائدٌ لكل خير، آخذٌ بصاحبه في مسالك الهدى حتى يدخلَه الجنّةَ، كيف لا وهو صادقُ اللهجةِ صادق الحالِ متحرٍّ للحق في كلّ الأقوال والأفعال؟! إنه يصدق ويتحرَّى الصدق ويلتزمه ويحتاط له ويزن كلماتِه ويتباعَد عن الخطأ ويتحرَّج من الزلل، فلا تنطوي نفسه على خبيئة أو خيانة حتى يُكتبَ عند الله صدِّيقًا. وأيّ منزلةٍ يرجوها المسلمُ بعد هذا؟! إنهم رِفاق الأنبياء والشهداء، فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا [النساء: 69].
أيّها المسلم، وحتى يتبيَّن لك أثرُ الصدق في القلب وبأيّ شيء استحقَّ الصادقون مرافقَة الأنبياء فتأمَّل أيضًا هذا الحديث الصحيح: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ قال: ((إذا اقتربَ الزمانُ لم تكدْ رؤيا المسلمُ تكذِب، وأصدقُكُم رؤيا أصدقُكُمْ حديثًا، ورؤيا المسلمِ جزءٌ من ستةٍ وأربعين جزءًا من النُّبوَّة)) الحديث رواه البخاري ومسلم. تأمّل، الرؤيا الصادقة جزءٌ من النبوَّة، وتكون في القلب الصادقِ الذي سما وتطهَّر، فاستضاء واستنار بنور الله، ففُتِحتْ له سُدفُ الغيبِ وأعْلمَهُ اللهُ بما شَاء.
أيّها المسلمون، من لزِم الصدقَ في صغَره كان له في الكبرِ ألْزَم، ومن اعتصَم به في حقّ نفسه كان في حقّ الله أعصم، ومن تحرَّى الصدق هُدِي إليه وطابت نفسه وطهُرتْ سريرته وأضاء قلبُه.
عبادَ الله، إنه لا يصحّ التهاونُ في هذا المبدأ، فهو أساسٌ في ديننا، وقد كان عُنوانًا لقدوتنا وأسوتنا محمّدٍ ، والذي كانت حياته أفضلَ مثالٍ للإنسان الكامِل الذي اتَّخذ من الصدق في القول والأمانة في المعاملة خطًّا ثابتًا لا يحيد عنه قيدَ أنملة، وقد كان ذلك فيه بمثابةِ السجيةِ والطبع، فعُرِف به حتى قبل البعثة، ولُقِّب بالصادق الأمين، واشتُهِر بهذا وعُرِف به بين الناس، ولما أُمِر بالجهر بالدعوة وتبليغ الرسالة جمَع الناسَ وسألهم عن مدى تصديقهم له إذا أخبرهم بأمر، فأجابوا بما عرفوا عنه قائلين: ما جرَّبنا عليك إلا صدقًا.
وانظر إلى هذا الموقفِ من حياةٍ كلّها صدقٌ ونبلٌ ووفاء: عن عبد الله بن أبي الحمساء قال: بايعتُ النبي ببيعٍ قبل أن يُبعَث، وبقيَت له بقيّة، فوعدتُه أن آتيَه بها في مكانه، فنسيتُ، ثم ذكرتُ بعد ثلاث، فجئت فإذا هو في مكانه، فقال: ((يا فتى، لقد شَققْت علَيّ، أنا ها هُنا منذ ثلاث أنتظِرُك)) رواه أبو داود. ثلاثة أيام وهو يأتي في نفس الموعِد إلى المكان المتَّفق عليه وفاءً وصِدقًا.
واستمرَّ هذا المبدأ الراسخ معه منذ طفولته حتى توفِّي ، لم يكذب كِذبةً واحدة، بل كان الكذِب أبغضَ خلقٍ إليه، قالت عائشة رضي الله عنها: ما كان مِن خلقٍ أبغَض إلى رسول الله من الكذب، ولقد كان الرجل يكذِب عنده الكِذبة فما يزالُ في نفسهِ حتى يعلَمَ أنه قدْ أحدَث فيها توبة. أخرجه الإمام أحمد وابن حبان.
ذلكم أنّ الكذب -يا عباد الله- صفةٌ دنيئة وخلقٌ لئيم، وقد يكون للبخيل أو الجبان ما يعذره، لكن ليس للكذاب عذر، روى صفوان بن سليم قال: قيل للنبي : أيكون المؤمن جبانًا؟ قال: ((نعم))، قيل: أفيكون بخيلا؟ قال: ((نعم))، قيل: أفيكون كذّابا؟ قال: ((لا)) رواه الإمام مالك في الموطأ وفي سنده مقال، ويعضُده ويبيّنه الحديثُ الآخر في مسندِ الإمام أحمد عن أبي أمامةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((يُطْبعُ المؤمنُ على الخلالِ كلِّهَا إلا الخيانةَ والكذِب)).
قال النوويّ رحمه الله: "قد تظاهرت نصوصُ الكتاب والسنة على تحريم الكذب في الجملة، وهو من قبائح الذنوب وفواحشِ العيوب، وإجماعُ الأمة منعقِدٌ على تحريمه مع النصوص المتظاهرة"، ثم قال رحمه الله: "ويكفي في التنفيرِ منه الحديث المتفقُ على صحته عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((آيةُ المنافقِ ثلاث: إذا حدَّث كَذب، وإذا وعدَ أخْلفَ، وإذا اؤتمِن خان))، وعن عبد الله بن عمروٍ رضي الله عنه: أن النبي قال: ((أربعٌ من كُنَّ فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خَصْلَةٌ منهن كانتْ فيه خصلةٌ من النِّفاقِ حتى يَدَعَهَا: إذا اؤتمنَ خَان، وإذَا حدَّثَ كَذَب، وإِذا عَاهَدَ غَدَر، وإذَا خاصَمَ فَجَر)) رواه البخاري ومسلم".
الكذب يُنقِص الإيمان، قال الله عز وجل: إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ [النحل: 105]، بل إن الكاذب معرَّضٌ للَّعن: ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ [آل عمران: 61].
الخَرَس خيرٌ من الكذب، وصِدقُ اللسان أوّل السعادة، وما من شيء إذا فكَّرتَ فيه بأذهَبَ للمروءة والجمال وأبعَد بالبهاء منَ الرجال من الكذب، فالكذب جماعُ كلّ شرّ وأصل كلّ ذنب، وصغيرُه يجرّ إلى كبيره، وقد قالت الحكماء: "مَنْ استحلى رَضاعَ الكذبِ عسُر فطامُه"؛ لذلك كان النبيّ يذمّه مهما كان يسيرًا، ويُنفِّر من الكذِب حتى على الصغار لأجل أن يشبّوا على الصدق ويألفوه ويتباعَدوا عن الكذب ويأنفوه، عن عبد الله بن عامرٍ أنه قال: دعَتني أمّي يومًا ورسول الله قاعدٌ في بيتنا، فقالت: ها تعالَ أعطيك، فقال لها رسول الله : ((وما أردْتِ أنْ تعطِيه؟)) قالت: أُعطيهِ تمرًا، فقال لها رسول الله : ((أما إنَّكِ لوْ لم تعطِه شيئًا كُتِبَتْ عليكِ كذِبة)) رواه أبو داود بإسناد حسن، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله أنه قال: ((من قالَ لصبيٍّ: تعالَ هاكَ ثم لم يعطِه فهي كِذبَة)) رواه الإمام أحمد بإسنادٍ صحيح.
فانظر كيف يعلِّم الرسولُ الآباءَ والأمهاتِ أن يُنشِئوا أولادَهم تنشئةً يقدِّسون فيها الصدق ويتنزَّهون عن الكذِب، ولو أنه تجاوَز عن هذه الأمورِ وحسبَها من التوافه الهيِّنة لخُشِي أن يكبر الأطفال وهم يعتبرون الكذب ذنبا صغيرًا وهو عند الله عظيم.
وقد سارت هذه الصرامةُ في تحرِّي الحقّ ورعاية الصدقِ حتى تناوَلت الشؤونَ المنزلية الصغيرة، عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها قالت: يا رسول الله، إنْ قالتْ إحدَانا لشيءٍ تشْتهِيه: لا أشْتهيه يُعدُّ ذلك كذِبًا؟ قال: ((إنَّ الكذِبَ يُكتَبُ كذِبًا حتّى تُكتَبُ الكُذَيبةُ كُذَيْبة)) أخرجه الإمام أحمد والطبراني في الكبير.
إنّه لا تهاونَ في مبدأ الكذب حتى ولو كان للتسليَة أو المزاح، عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جدِّه رضي الله عنهم قال: سمعتُ رسول الله يقول: ((ويلٌ للذِي يحدِّثُ بالحديثِ ليُضحِكَ بهِ القوم فيكْذِب، ويلٌ له، ويلٌ له)) رواه أحمد وأبو داود والترمذيّ والنسائيّ، وقال الترمذي: "حسنٌ صحيح". ولفظ أبي داود: ((ويلٌ للَّذي يحدِّثُ فيكذِبُ ليُضْحِكَ القوم، ويلٌ له، ويلٌ له)).
فإذا كان هذا فيما يستسهل فما ظنُّك بأشنع الكذب؟! وهو الكذب على الله أو على رسوله، قال الله عز وجل: وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ [الزمر: 60]، وقال : ((مَنْ كذب عليَّ متعمِّدًا فلْيتبوّأ مقعدَهُ مِنَ النَّار)) متفق عليه.
يلي ذلك ما كان ضررُه عامًّا؛ كالكذب الذي يطال مصالحَ الأمة وقضاياها الكبار أو يحدِث بلبلة في صفوف المجتمع وينشر الفوضى ويعدِم الثقةَ ويُلبس الحقَّ بالباطل؛ سيّما مع وجودِ وسائل النشرِ العامّة وسرعة انتشار المعلومة، فتجد شبكةَ معلومات تطلِق الإشاعات، وترى إعلامًا يكذب وصُحُفًا تحرّف، فيعزّ الصدق وسط هذا الرّكام، وإذا اختلطتِ الحقائقُ صار الناسُ على غير هدى، وقد رأى النبيُّ عذابَ من ينشُر كِذبتَه فقال: ((وأما الرجلُ الذي أتيتَ عليه يُشرْشَرُ شِدْقُه إلى قفاه ومِنْخَرُه إلى قفاه وعَينُه إلى قفاه فإنّه الرجلُ يغدو من بَيتِه فيَكذِب الكذبة تبلغُ الآفاق)) رواه البخاري.
وربما يأتي الكذِب من مَصدرٍ يعتقِد السامعُ صدقَه، فيبني عليه مواقفَه، فيحصل من البلاء والضرر ما لا يعلمه إلا الله، وربما هدِمت بيوتٌ وشتِّتَت أسر أو أريقت دِماء لأجلِ نقلٍ كاذب أو وِشاية غادِرة، وفي الحديث: ((كبُرتْ خيانةً أنْ تحدِّثَ أخاك حديثًا هو لك به مصدِّق وأنت له به كاذِب)) رواه أبو داود.
عبادَ الله، الصِّدق بركة والكذِب محق، وعند البيع والشراء يحضُر الطمَع ويقلّ الورع؛ لذا كان التوجيه الكريم واعظًا في هذا المقام، عن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((البيِّعان بالخيارِ ما لمْ يتفرقَا -أو قال: حتى يتفرَّقا-، فإنْ صدقَا وبيَّنا بُورِك لهما في بَيعهِما، وإنْ كتَمَا وكذَبا مُحِقت بركةُ بيعهِما)) رواه البخاري ومسلم. وقد بوب البخاري في صححيه لهذا الحديث بقوله: "باب: ما يمحَق الكذب والكتمان في البيع".
وعن رفاعةَ رضي الله عنه أنه خرج مع النبيِّ إلى المصلَّى، فرأى الناس يتبايعون، فقال: ((يا معشر التُّجار))، فاستجابوا لرسول الله ، ورفعوا أعناقهم وأبصارهم إليه، فقال: ((إن التجار يُبعَثون يومَ القيامةِ فجَّارا إلا مَن اتقى الله وبرَّ وصدق)) رواه الترمذيّ وابن ماجه، وقال الترمذي: "هذا حديثٌ حسن صحيح".
ألا فاجعَلوا الصدقَ لكم شعارًا ودِثارًا، والزَموه إعلانًا وإِسرارًا؛ يجعَلِ الله التقوى في قلوبكم والتوفيقَ والنورَ في دروبكم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة: 119].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبد الله ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أمّا بعد: أيّها المسلمون، فأطْرُ النفس على الصدقِ وإلزامُها به ومراقبةُ الله تعالى في السرِّ والعلَن والتزامُ التقوى دوافع للإنسان أن يكونَ الصدق له سجيةً.
إشاعةُ الصدق في المجتمع ونبذُ الكذّابين خاصّة في وسائل النشر العامة ومصادرِ التلقّي واجبٌ على المجتمع. إنه من السيِّئ أن يعتادَ الناسُ على من يكذِب ويبقَى حاضرًا مؤثِّرا بقلمِه أو لسانه أو وسيلتِه الإعلامية. إنه قد يوجَد في أيّ مكان من يكذب، لكن لا يجوز أن يبقَى الكذِب أو يُعتاد على وجودِه.
لقد كانتِ الشريعةُ حاسمةً في هذا الجانب، وكان من عقوبةِ القاذف في القرآن العظيم الجلد والتشهير بالفسق، وقال الله أيضا: وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا [النور: 4]. إنه حجرٌ على وباء وإقصاءٌ لداء.
كما أنَّ للقدوة تأثيرًا كبيرًا في هذا الجانِب، وكم يغفَل الأبُ أو الأمّ أو المعلِّم حين يتساهل في الصّدق ولا يشعرُ أن الناشِئ يلتقط منه بوعيٍ أو بدون وعي ويتربى على هذا الخلُق أو ذاك.
الصدقُ ثقافةُ مجتمع ومسؤولية كل فرد، ((وهَلْ يكبُّ الناسَ في النّارِ على وجوهِهِم إلا حصائدُ ألسنتِهمْ)).
هذا، وصلُّوا وسلِّموا على خير البرية وأزكى البشرية محمّدٍ بن عبد الله الهاشميّ القرشيّ...