هل من عودة قبل الموت
سعد البريك
ملخص الخطبة
1- الموت غاية كل حي. 2- مشاهد من سوء الخاتمة. 3- مشاهد من الصدق وحسن الخاتمة. 4- دعوة للاستعداد للموت. 5- النعيم الحقيقي والشقاء الحقيقي إنما يكونان في الآخرة.
الخطبة الأولى
ثم أما بعد:
اتقوا الله حق التقوى:
يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ وٰحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَٱلأَرْحَامَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1].
معاشر المؤمنين، معاشر الأحبة:
هناك مدخلُ رئيس، وهناك حقيقةُ لا بد من طرحِها، وقضيةُ لابد من مواجهتِها. قضيةُ لابد أن نواجهها نحن. لا بد أن يواجهها كل واحدٍ في هذا المسجد. ولابد أن يواجهَها كلُ مسلمٍ وكافر. كلُ بعيدٍ وقريب.
كلُ ذليلٍ وحقير. كلُ عزيزٍ وأمير. كلُ صعلوكٍ ووزير.
هيَ حقيقةُ الموت، هي نهايةُ المطاف، هي خاتمةُ الدنيا.
كلُ البشرية تشهدُ وتعلم وتنطقُ أن نهايتَها هي الموت، وأن منتهى الطريقِ بالنسبة لها هو الانقطاعُ عن هذه الدنيا.
انقطاعُ النفسَ، وانقطاعِ الروحَ، وانقطاع الجوارح، فالعينُ لا تبصر، واليدُ لا تتحرك، والأذنُ لا تسمع، والنفَسُ لا يجري، والدماء لا تتحرك، والشرايينُ لا تنبض.
إنها النهايةُ الأخيرةُ التي يواجهها ويقفُ أمامَها كلُ صغيرٍ وكبير، كلُ بعيدٍ وقريب.
كثيراً ما سمعنا بشباب كانوا في غفلةٍ، كانوا في بعدٍ، كانوا في تسلطٍ، كانوا في قسوة، كانوا في جفاء، كانوا في غلظةٍ، كانوا في قطيعةٍ وعقوقٍ.
بعضُهم يشهدُ ويقرُ على نفسِه يقول:ُ ما ركعتها في المسجد مع الجماعة، وبعضُهم يقولُ ما جانبتُ كأسَ الخمرِ مرة، وبعضُهم يقول ما سافرت إلا واقعت الفاحشة، فإذ به في يوم من الأيامِ تجده باكياً، خاشعاً، ساجداً راكعاً.
سبحان مقلبَ القلوبِ والأبصار، ما الذي غير هذا ؟ ما الذي بدل أحوالَه ؟ ما الذي غيرَ أحوالَه ؟ إنه اللهُ جل وعلا.
ولكن كيف السبب؟ وما هو السبيل؟ وأي طريقة وصلت إلى قلبه؟
قدر اللهُ على الكثيرين منهم أن يقفوا مشهداً ماثلاً حقيقياً لا محيصَ ولا مناصَ عنه.
قدر اللهُ للكثيرين منهم أن يقفوا أمام حقيقةِ الموت وهم يشهدون بأمهات أعينهم، وأمهات أبصارِهم، يشهدون صديقاً، يشهدون حبيباً، يشهدون قريباً.
ولا ينفعُ طبيب ولا يجدي نحيبُ.
حدثني أحدهم قال: كنتُ مسافراً للدراسةِ إلى الولايات المتحدة الأمريكيةِ، وكان شأني شأنُ كثيرٍ من الشبابِ الذين يقضون الليل في الملهى، والمساء في المرقص والعبث الذي تعنيه كلمةُ العبثِ بأبعادِها ومعانيها.
وذات يوم وكنا آيبين، كنا راجعين من ملهانا وعبثنا وتقدم بعضنا إلى السكن، أما واحد منا فلقد استبطأناه وتأخرناه.
ثم قلنا لعله يأتي بعد سويعة أو بعد ساعة أو بعد هنيهة، ثم لم نزل ننتظر لكنه ما آتى، فنزلنا نبحث يميناً أو شمالاً، وخاتمة المطاف قلنا: لابد أن يكون في الكراج، أو في الموقف الذي يجعل للسيارة تحت البناء.
فلما دخلنا ذلك البناء، دخلنا موقف السيارة، ووجدنا السيارة لا زال محركها يدور وصاحبنا قد انخنعت رقبته على إطار السيارة، وهو في مكانه والموسيقى الهادئةُ لا زالت تسمعُ منذ آخرَ الليلِ، حتى اللحظة التي فتحنا فيها باب السيارة وهي تدندن وتطنطن.
فصحنا نادينا تكلمنا: يا أخانا يا صاحبَنا، فإذا به قد انقطعَ عن الدنيا منذُ اللحظةِ التي أوقفت سيارتَه في ذلك الكراج.
هذه نهايةُ أشعلت في قلوبِ الكثير من أولئك الشبابِ يقظةً وغيرَةً وعودة وإنابة وتوبةُ وخضوعاً إلى الله فعادوا إلى اللهِ تائبين ما شربوا بعدها، ولا فعلوا بعدها بل أنابوا واستكانوا لربهم.
أسأل اللهَ أن يثبتنا وإياهم، وأسأل الله أن يعامل صاحبهم بعفوه وأن يتجاوز عنا وعنه.
هذه واحدة، والأخرى ليس لها إلا أيام قليلة سمعتها من أحد إخواني في الله يقول: كنتُ كغيري من سائرِ الشباب، وفي ليلةٍ من الليالي التي كنتُ أسهرُ فيه مع أحبابي وأصدقائي، ومن بينهم واحد من الأحبة، ومن بينهم حبيب إلي، أعزُ صديقٍ إلى قلبي وأقربُ قريب إلى فؤادي.
بينما أنا وإياه إذ به فجأة يصرخ: فلان أدركني، فقلتُ ما الذي بك؟ قال إني أحسُ بشيءً في قلبي.
قال: فدنوتُ منهُ فإذا هو يتلبط ويقول:ُ أسرع لي بطبيب، فناديت واتصلت بمن يحضرُ لنا طبيباً. وكانتِ الفترةُ لا تتجاوز خمسة عشر دقيقة أو عشرين دقيقة ونحن ننتظر وصول الطبيب.
وفي تلك الدقائقِ وهو يقول إني أحس بالفراق. إنها النهاية. إنها الخاتمة. سأفارقُ الدنيا. سأتركُ طفلي. سأتركُ زوجتي. سأفارقُكم.ستضعوننَي في كذا. ستتركونَني وحدي.
وأخذ يمرُ عليه سجلَ ذكرياتِه. وأخذتَ تتقلبُ أمامَه صحائفَ أفعاله. قال وأنا أنظرُ إليه وكلي وحشةُ ودهشة، وكلي عجبُ وغرابةُ، وأنا أنتفضُ ويحاسبُ نفسَه ويعاتِب روحَه.
وأنا والله أصبرهُ و أنا أشدُ ألماً منه، وأشد استعراضاً لما يكون في حياتي.
فأخذت أتقلب في ذلك الموقف. وما هي إلا ستة عشر دقيقة تزيد أو تنقص قليلاً حتى فاضت روحُه.
وذهبنا وأحبابنا وأقاربنا وأصحابنا نضعُ قريبَنا وصديقنا وأعز أحبابَنا وأجل أقاربنا، نضعُه في مثواه الأخير، ونواري عليه التراب.
أحبُ الأحبابِ هو الذي منا يتقنُ اللحد أن لا يتسربَ إليه ذرة هواءٍ أو إشعاعُ نورٍ، ثم ما برحنا أن نهيل عليه التراب، ثم ودعناه في مثواه الأخير، وانصرفنا.
شاب من مدة ليس بالقريبة حدثني عن أحد الشباب في ما تسمى ببانكوك قال:
لقد كان في ضلالة، وقد كان في بلاء، وقد كان في أمر لا يفيق من جرائه من المخدرات أو الشراب، وما صاحب ذلك من مصاحبة البغايا والفاجرات.
وفي لحظة من سكر وشوق إلى عهر تأخرت صديقته، تأخرت حبيبته عليه، فما هي إلا لحظات وقد كاد يجن من تأخرها. ما هي إلا لحظات حتى أقبلت عليه فلما رآها خر ساجداً لها.
وما الذي تنتظرونه! هي السجدة الأخيرة، هي النهاية. والله ما قام من سجدته، بل أقاموه في تابوته وأرسلوه بطائرته ودفنوه مع سائر الموتى.
أيها الأحبة: إن هذا الموتَ هو أخطرُ حقيقةٍ ، هو أعظم حقيقةٍ، هو أكبرُ حقيقةٍ يواجهها الشقيُ والسعيد، الغنيُ والفقير، العزيزُ والذليل، الذليلُ والحقير.
الموت هو أكبر حقيقة، ومن أجل هذا كان صلى الله عليه وسلم يقول: ((اكثروا من ذكر هادم اللذات، ألا وإني كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، فإنها تذكركم الآخرة)).
أيها الأحبة، أسوق هذه الأحداث متفرقة مختلفة، وكلها تختلف من حيث الخاتمة وتختلف من حيث النهاية، لكنها في مؤد واحد وهو الخاتمة.
أي خاتمةٍ نواجهُها وأي نهايةٍ نفضي إليها، وأي عمرٍ يمتدُ بنا وأي شبابٍ نتقلبُ فيه، حتى ننتقلُ منه إلى الشيخوخة ثم نتوب بعد ذلك.
هل ضِمنا هذه الحياةَ ؟ هل ضمِنا هذه الأعمارَ؟ بادروا بالتوبةِ بادروا بالإنابةِ قبل أن يخطِفَكم الموتُ ويخطِفَكم الأجلُ وتمضي الملائكةُ بوديعةِ اللهِ من أرضه إلى السماءِ، فتكونَ في أعلى عليينَ أو في أسفلَ سافلين.
إن حُسنَ الخاتمةِ وسوءَ الخاتمة لأمرُ خطير وعجيب وجليل جداً.
جاء صحابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان ذلك قبل أن يسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجهز جيشاً من الجيوش لمعركة حاسمة مع الكفار.
فجاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يومئذ كافر فقال: يا محمد أرأيت إن اتبعتك فما الذي لي وما الذي علي؟
قال: ((إن شهدت أن لا إله إلا الله وأني محمد رسول الله كان لك ما للمسلمين عامة، وعليك ما عليهم عامة، فإن غنموا غنمت معهم)).
قال: ما على هذا أتبعك، فشهد أن لا إله إلا الله وشهد أن محمداً عبده ورسوله.
ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن غنموا فأنت معهم في الغنيمة، وإن مت فلك الجنة من الله جل وعلا)).
فقال ذلك الصحابي: والله ما على هذا اتبعتك. أي ما اتبعتك لأجل الغنيمة.
وإنما اتبعتك على أن أغزو معك فأرمى بسهم من هاهنا وأشار إلى نحره، ويخرج السهم من هاهنا وأشار إلى قفاه.
ثم دخل المعركة وقاتل وأبلى بلاء حسناً، فجيء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رمي في سهم دخل في نحره، وخرج من رقبته، وقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((صدق الله فصدقه، بخٍ بخ عمل قليلاً ونال كثيراً، دخل الجنة ما سجد لله سجدة)).
انظروا الخاتمة، انظروا النهاية وتأملوها واعتبروا بها.
أسال الله جل وعلا أن يحسن لي ولكم الخاتمة وأن يجعلنا وإياكم من السعداء، وأن يتوفانا على التوحيد شهداء.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم لي ولكم فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله اتقوا الله حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام، عضوا بالنواجذ على العروة الوثقى.
اعلموا أن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله على الجماعة، ومن شذَ شذ في النار عياذاً بالله من ذلك.
جاء عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: ((إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يؤمر الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بكتب أربع كلمات: برزقه وأجله وشقي أو سعيد، فو الله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)) [حديث صحيح].
أيها الأحبة هذا الحديث عمدة في حسن الخاتمة وسوئها، فاسألوا الله تعالى أن يحسن لنا ولكم الخاتمة، واسألوا الله جل وعلا الثباتِ على نعمة الدين.
فإن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وهو أفضلُ الأنبياء، وسيد المرسلين، وهو أولُ من ينشقُ عنه القبرَ، وأولُ من تُفتَحُ له أبوابَ الجنةِ، وأولُ من ينالُ أعلى منازلَها، وهو صاحبُ المقامِ المحمودِ وهو صاحبُ الوسيلةِ، والشفاعةِ العظمى، الذي غفر ما تقدم من ذنبه وما تأخر كان يطيلُ قيامَه وصيامَه.
وكان يطيلُ سجوده وتهجدَه ويقولُ: ((يا مقلبَ القلوب، يا مقلب القلوب، يا مقلب القلوب)).
فيا عباد الله اسألوا الله بهذا الدعاء، اسألوا الَله الذي بيده النواصي، اسألوا الله الذي بيده القلوب- وهي بين أصبعين من أصابع الرحمن التي تليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه- اسألوا الله أن يثبتَ قلوبنا وقلوبكم على الإيمان.
وأن يعصمَكم من الزيغِ والضلالةِ، ومن الغوايةِ بعد الهداية، ومن الفسادِ بعد الصلاح.
وأنتم يا شباب المسلمين: إن الكثيرَ منا وإن الكثير من شبابنا يسوفون التوبةَ، ويؤجلون الإنابةَ، وينشغلون بالعبثِ، ويلهونَ في الباطلِ ظناً منهم بأن الحياةَ أمامَهم وهم في ريعانِ الشبابِ وفي ربيعَ العمرِ، وفي زهرةِ الدنيا، يظنون أن الاستقامة تعقيد، وأن الطاعة وسوسة، وأن الإخبات لله تضييق وتشديد.
لا والله يا عباد الله، إننا نفوتُ على أنفسِنا حظاً عظيماً من السعادةِ بقدرِ ما نفوتُه من الأعمالِ الصالحةِ.
واعلموا أن الموتَ ساعةً لا تتقدمُ، ولا تتأخر، فمن ذا الذي يضمنُ خروجَه من المصلى؟ ومن ذا الذي يضمنُ يقظتَه من فراشه؟ ومن ذا الذي يضمن عودتَه إلى بيته؟ ومن ذا الذي يضمنُ وصولَه إلى عمله؟
إذا كان هذا شأننا فيا عجباً لقسوةِ القلوب، لا تدري متى تُخطف وهي مع ذلك عابثةُ لاهيةٌ.
تزود مــن الدنيـا فإنـك لا تـدري إذا جنَ ليلُ هل تعيشَ إلى الفجـرِ
فكم من صحيحٍ مات من غيـرِ علـةٍ وكم من سقيمٍ عاش حيناً من الدهرِ
وكم من صغارٍ يرتجى طولَ عمرِهـم وقد أُدخلت أجسادُهم ظُلمةَ القبـرِ
وكم مـن عـروسٍ زينوها لزوجِهـا وقد نُسجت أكفانُها وهي لا تدري
فيا عباد الله استعدوا للقاء الله وبادروا بالتوبةِ، وبادروا بالخضوعِ والإنابةِ.
إنما هذه الدنيا متاعُ قليل وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ يُقْسِمُ ٱلْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ [الروم:55].
والله إن هذه الدنيا بما فيها من ملذاتٍ وشهواتٍ ومراكبَ وقصورٍ ودورٍ وضيعاتٍ وزوجاتٍ وجناتٍ، وأموالٍ وذرياتٍ لا تعدلُ غمسةً في نارِ جهنم.
وإن الشقاءَ في هذه الدنيا بما فيه من الفقرِ والمرضِ والسقم والذلةِ وضيق الحالِ لا يساوي غمسةً في نعيمِ الجنة.
يوم القيامةِ يؤتى بألذِ أهلِ الأرضِ حالاً و أيسرُهم عيشاً ثم يغمسُ غمسةً في وهي أقلُ من اللحظةِ أو أقل، جزء من أجزاء اللحظة، يغمس غمسة في النار فيقال: يا ابنَ أدمَ هل رأيتَ نعيماً قط؟ هل مر بك نعيمُ قط؟
فيقولُ: لا يا رب ما مر بي نعيمُ قط. ينسى نعيمَ الدنيا كلَه في غمسةٍ صغيرة دقيقة في النار.
ويؤتىَ بأشدِ أهلِ الدنيا بؤساً وفقراً ومرضاً فيغمسُ غمسةً واحدة في الجنة. ويقالُ: يا ابنَ آدمَ هل مر بك بؤسُ قط؟ هل مر بك شقاءُ قط؟
فيقولُ: يا رب ما مر بي شقاءُ، وما مر بي بؤسُ.
فلنعد لذلك اليوم، وهو يومُ لا بد أن نردَه على صراطٍ أدقَ من الشعرةِ و أحدَّ من السيفِ، والناسُ يمضون عليهِ على قدرِ أعمالِهم، وكلاليبُ جهنمَ عن يمينهِ وعن يسارهِ.
فمِن المؤمنين الذين يسعون ونورهم بين أيديهم مد أبصارهم من يمرون عليه كالبرقِ الخاطف، ومن المؤمنين من يمرونه كأجاويدِ الخيلِ، ومنهم من يمره كأسرعِ الناسِ عدواً، ومنهم من يحب على الصراط حبواً، ومنهم من يمضي عليه فتدركُه كلاليبُ جهنمَ.
أدركتُه أعمالُه السيئةِ، وتفريطُه في حقهِ وتضييعُه وتقصيرُه في جنبِ الِله وطاعة الله.
فلنعدَ لذلك اليوم، ولنعدِ لدار سوف نسكُنها وسوف نبقى فيها.
والله ما نفعَ أهلُ الأموالِ أموالهَم. أين الملوك، أين الوزراء، أين الأمراء، أين الرؤساء، أين الخلفاء؟ أين الذين ذهبوا، أين الذين ملكوا،أين الذين نالوا، أين الذين جمعوا ؟ أين الأثرياء؟ أين الكبراء؟
لقد ودعوهم وودعناهم في حفرةٍ لا فراشَ فيها ولا خادم فيها، ولا مائدة عندها، ولا باب إليها، ولا نورَ يضيئها، ولا هواء يهويها.
لا شيء فيها إلا خرقة بيضاء يحسدُك الدودُ عليها فينتزعُها من جسمك ولا يتركها لك.
كتب اللُه أن تعود إلى هذه الدنيا في نهايةِ المطاف وفي خاتمةِ الأمرِ كما نزلت عليها.
حتى كفنُك ينازعُك الدودُ فيه فيقرضه منك خيطاً خيطاً، وشعرةً شعرة ينتزعه من جسدك.
فإن منّ اللهُ عليك وكنتَ من الصالحينَ عوضك الله عن هذا الكفن أبواباً إلى الجنانِ ونعيماً مقيماً في دارِ الخلودِ، فتُفتح لك أبوابُ الجنةِ ويضاءُ لك القبرُ وتأنس بعملِك الصالحَ وتبقى زاهياً متغنياً تقولُ: رب أقم الساعة، رب أقم الساعة.
وإن كنت من أهلِ الشقاءِ، من أهل الضياع، من الذين ضاعت أموالُهم في الربا، وتركوا المساجدَ وغفلوا عن الجماعات، وضيعوا حقوقَ الله وضيعوا محارمَ الله في كل سفرٍ، وفي كل ذهابٍ وإياب لا يرعون حرماتِ الله، يواقعون الفواحش لا يبالون.
فإنك لا تجني من الشوك العنب، وكل سيلقى عمله أمامه.
يا غافـلاً عن العمل وغرَه طـولُ الأمـل
الموتُ يأتـي بغتـةً والقبرُ صندوق العمل
انظروا واجمعوا في صناديقكم.
لو زار كلُ واحدٍ منا قبَره في الأسبوعِ مرهً، في الشهر مرة، في نصف الشهر مرة، وأنت تنظر،ُ هذا صندوقي، هذا فراشي، هذه داري، سأسكنها وحدي.
هل وضعت فيها عملاً صالحاً، أم أودعتها خيبة وضياعاً وحرماناً وحسرة.
أسأل الله أن يحسن لنا ولكم الخاتمة.
أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يحسن لنا ولكم الخاتمة.
سعد البريك
ملخص الخطبة
1- الموت غاية كل حي. 2- مشاهد من سوء الخاتمة. 3- مشاهد من الصدق وحسن الخاتمة. 4- دعوة للاستعداد للموت. 5- النعيم الحقيقي والشقاء الحقيقي إنما يكونان في الآخرة.
الخطبة الأولى
ثم أما بعد:
اتقوا الله حق التقوى:
يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ وٰحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَٱلأَرْحَامَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1].
معاشر المؤمنين، معاشر الأحبة:
هناك مدخلُ رئيس، وهناك حقيقةُ لا بد من طرحِها، وقضيةُ لابد من مواجهتِها. قضيةُ لابد أن نواجهها نحن. لا بد أن يواجهها كل واحدٍ في هذا المسجد. ولابد أن يواجهَها كلُ مسلمٍ وكافر. كلُ بعيدٍ وقريب.
كلُ ذليلٍ وحقير. كلُ عزيزٍ وأمير. كلُ صعلوكٍ ووزير.
هيَ حقيقةُ الموت، هي نهايةُ المطاف، هي خاتمةُ الدنيا.
كلُ البشرية تشهدُ وتعلم وتنطقُ أن نهايتَها هي الموت، وأن منتهى الطريقِ بالنسبة لها هو الانقطاعُ عن هذه الدنيا.
انقطاعُ النفسَ، وانقطاعِ الروحَ، وانقطاع الجوارح، فالعينُ لا تبصر، واليدُ لا تتحرك، والأذنُ لا تسمع، والنفَسُ لا يجري، والدماء لا تتحرك، والشرايينُ لا تنبض.
إنها النهايةُ الأخيرةُ التي يواجهها ويقفُ أمامَها كلُ صغيرٍ وكبير، كلُ بعيدٍ وقريب.
كثيراً ما سمعنا بشباب كانوا في غفلةٍ، كانوا في بعدٍ، كانوا في تسلطٍ، كانوا في قسوة، كانوا في جفاء، كانوا في غلظةٍ، كانوا في قطيعةٍ وعقوقٍ.
بعضُهم يشهدُ ويقرُ على نفسِه يقول:ُ ما ركعتها في المسجد مع الجماعة، وبعضُهم يقولُ ما جانبتُ كأسَ الخمرِ مرة، وبعضُهم يقول ما سافرت إلا واقعت الفاحشة، فإذ به في يوم من الأيامِ تجده باكياً، خاشعاً، ساجداً راكعاً.
سبحان مقلبَ القلوبِ والأبصار، ما الذي غير هذا ؟ ما الذي بدل أحوالَه ؟ ما الذي غيرَ أحوالَه ؟ إنه اللهُ جل وعلا.
ولكن كيف السبب؟ وما هو السبيل؟ وأي طريقة وصلت إلى قلبه؟
قدر اللهُ على الكثيرين منهم أن يقفوا مشهداً ماثلاً حقيقياً لا محيصَ ولا مناصَ عنه.
قدر اللهُ للكثيرين منهم أن يقفوا أمام حقيقةِ الموت وهم يشهدون بأمهات أعينهم، وأمهات أبصارِهم، يشهدون صديقاً، يشهدون حبيباً، يشهدون قريباً.
ولا ينفعُ طبيب ولا يجدي نحيبُ.
حدثني أحدهم قال: كنتُ مسافراً للدراسةِ إلى الولايات المتحدة الأمريكيةِ، وكان شأني شأنُ كثيرٍ من الشبابِ الذين يقضون الليل في الملهى، والمساء في المرقص والعبث الذي تعنيه كلمةُ العبثِ بأبعادِها ومعانيها.
وذات يوم وكنا آيبين، كنا راجعين من ملهانا وعبثنا وتقدم بعضنا إلى السكن، أما واحد منا فلقد استبطأناه وتأخرناه.
ثم قلنا لعله يأتي بعد سويعة أو بعد ساعة أو بعد هنيهة، ثم لم نزل ننتظر لكنه ما آتى، فنزلنا نبحث يميناً أو شمالاً، وخاتمة المطاف قلنا: لابد أن يكون في الكراج، أو في الموقف الذي يجعل للسيارة تحت البناء.
فلما دخلنا ذلك البناء، دخلنا موقف السيارة، ووجدنا السيارة لا زال محركها يدور وصاحبنا قد انخنعت رقبته على إطار السيارة، وهو في مكانه والموسيقى الهادئةُ لا زالت تسمعُ منذ آخرَ الليلِ، حتى اللحظة التي فتحنا فيها باب السيارة وهي تدندن وتطنطن.
فصحنا نادينا تكلمنا: يا أخانا يا صاحبَنا، فإذا به قد انقطعَ عن الدنيا منذُ اللحظةِ التي أوقفت سيارتَه في ذلك الكراج.
هذه نهايةُ أشعلت في قلوبِ الكثير من أولئك الشبابِ يقظةً وغيرَةً وعودة وإنابة وتوبةُ وخضوعاً إلى الله فعادوا إلى اللهِ تائبين ما شربوا بعدها، ولا فعلوا بعدها بل أنابوا واستكانوا لربهم.
أسأل اللهَ أن يثبتنا وإياهم، وأسأل الله أن يعامل صاحبهم بعفوه وأن يتجاوز عنا وعنه.
هذه واحدة، والأخرى ليس لها إلا أيام قليلة سمعتها من أحد إخواني في الله يقول: كنتُ كغيري من سائرِ الشباب، وفي ليلةٍ من الليالي التي كنتُ أسهرُ فيه مع أحبابي وأصدقائي، ومن بينهم واحد من الأحبة، ومن بينهم حبيب إلي، أعزُ صديقٍ إلى قلبي وأقربُ قريب إلى فؤادي.
بينما أنا وإياه إذ به فجأة يصرخ: فلان أدركني، فقلتُ ما الذي بك؟ قال إني أحسُ بشيءً في قلبي.
قال: فدنوتُ منهُ فإذا هو يتلبط ويقول:ُ أسرع لي بطبيب، فناديت واتصلت بمن يحضرُ لنا طبيباً. وكانتِ الفترةُ لا تتجاوز خمسة عشر دقيقة أو عشرين دقيقة ونحن ننتظر وصول الطبيب.
وفي تلك الدقائقِ وهو يقول إني أحس بالفراق. إنها النهاية. إنها الخاتمة. سأفارقُ الدنيا. سأتركُ طفلي. سأتركُ زوجتي. سأفارقُكم.ستضعوننَي في كذا. ستتركونَني وحدي.
وأخذ يمرُ عليه سجلَ ذكرياتِه. وأخذتَ تتقلبُ أمامَه صحائفَ أفعاله. قال وأنا أنظرُ إليه وكلي وحشةُ ودهشة، وكلي عجبُ وغرابةُ، وأنا أنتفضُ ويحاسبُ نفسَه ويعاتِب روحَه.
وأنا والله أصبرهُ و أنا أشدُ ألماً منه، وأشد استعراضاً لما يكون في حياتي.
فأخذت أتقلب في ذلك الموقف. وما هي إلا ستة عشر دقيقة تزيد أو تنقص قليلاً حتى فاضت روحُه.
وذهبنا وأحبابنا وأقاربنا وأصحابنا نضعُ قريبَنا وصديقنا وأعز أحبابَنا وأجل أقاربنا، نضعُه في مثواه الأخير، ونواري عليه التراب.
أحبُ الأحبابِ هو الذي منا يتقنُ اللحد أن لا يتسربَ إليه ذرة هواءٍ أو إشعاعُ نورٍ، ثم ما برحنا أن نهيل عليه التراب، ثم ودعناه في مثواه الأخير، وانصرفنا.
شاب من مدة ليس بالقريبة حدثني عن أحد الشباب في ما تسمى ببانكوك قال:
لقد كان في ضلالة، وقد كان في بلاء، وقد كان في أمر لا يفيق من جرائه من المخدرات أو الشراب، وما صاحب ذلك من مصاحبة البغايا والفاجرات.
وفي لحظة من سكر وشوق إلى عهر تأخرت صديقته، تأخرت حبيبته عليه، فما هي إلا لحظات وقد كاد يجن من تأخرها. ما هي إلا لحظات حتى أقبلت عليه فلما رآها خر ساجداً لها.
وما الذي تنتظرونه! هي السجدة الأخيرة، هي النهاية. والله ما قام من سجدته، بل أقاموه في تابوته وأرسلوه بطائرته ودفنوه مع سائر الموتى.
أيها الأحبة: إن هذا الموتَ هو أخطرُ حقيقةٍ ، هو أعظم حقيقةٍ، هو أكبرُ حقيقةٍ يواجهها الشقيُ والسعيد، الغنيُ والفقير، العزيزُ والذليل، الذليلُ والحقير.
الموت هو أكبر حقيقة، ومن أجل هذا كان صلى الله عليه وسلم يقول: ((اكثروا من ذكر هادم اللذات، ألا وإني كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، فإنها تذكركم الآخرة)).
أيها الأحبة، أسوق هذه الأحداث متفرقة مختلفة، وكلها تختلف من حيث الخاتمة وتختلف من حيث النهاية، لكنها في مؤد واحد وهو الخاتمة.
أي خاتمةٍ نواجهُها وأي نهايةٍ نفضي إليها، وأي عمرٍ يمتدُ بنا وأي شبابٍ نتقلبُ فيه، حتى ننتقلُ منه إلى الشيخوخة ثم نتوب بعد ذلك.
هل ضِمنا هذه الحياةَ ؟ هل ضمِنا هذه الأعمارَ؟ بادروا بالتوبةِ بادروا بالإنابةِ قبل أن يخطِفَكم الموتُ ويخطِفَكم الأجلُ وتمضي الملائكةُ بوديعةِ اللهِ من أرضه إلى السماءِ، فتكونَ في أعلى عليينَ أو في أسفلَ سافلين.
إن حُسنَ الخاتمةِ وسوءَ الخاتمة لأمرُ خطير وعجيب وجليل جداً.
جاء صحابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان ذلك قبل أن يسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجهز جيشاً من الجيوش لمعركة حاسمة مع الكفار.
فجاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يومئذ كافر فقال: يا محمد أرأيت إن اتبعتك فما الذي لي وما الذي علي؟
قال: ((إن شهدت أن لا إله إلا الله وأني محمد رسول الله كان لك ما للمسلمين عامة، وعليك ما عليهم عامة، فإن غنموا غنمت معهم)).
قال: ما على هذا أتبعك، فشهد أن لا إله إلا الله وشهد أن محمداً عبده ورسوله.
ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن غنموا فأنت معهم في الغنيمة، وإن مت فلك الجنة من الله جل وعلا)).
فقال ذلك الصحابي: والله ما على هذا اتبعتك. أي ما اتبعتك لأجل الغنيمة.
وإنما اتبعتك على أن أغزو معك فأرمى بسهم من هاهنا وأشار إلى نحره، ويخرج السهم من هاهنا وأشار إلى قفاه.
ثم دخل المعركة وقاتل وأبلى بلاء حسناً، فجيء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رمي في سهم دخل في نحره، وخرج من رقبته، وقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((صدق الله فصدقه، بخٍ بخ عمل قليلاً ونال كثيراً، دخل الجنة ما سجد لله سجدة)).
انظروا الخاتمة، انظروا النهاية وتأملوها واعتبروا بها.
أسال الله جل وعلا أن يحسن لي ولكم الخاتمة وأن يجعلنا وإياكم من السعداء، وأن يتوفانا على التوحيد شهداء.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم لي ولكم فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله اتقوا الله حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام، عضوا بالنواجذ على العروة الوثقى.
اعلموا أن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله على الجماعة، ومن شذَ شذ في النار عياذاً بالله من ذلك.
جاء عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: ((إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يؤمر الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بكتب أربع كلمات: برزقه وأجله وشقي أو سعيد، فو الله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)) [حديث صحيح].
أيها الأحبة هذا الحديث عمدة في حسن الخاتمة وسوئها، فاسألوا الله تعالى أن يحسن لنا ولكم الخاتمة، واسألوا الله جل وعلا الثباتِ على نعمة الدين.
فإن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وهو أفضلُ الأنبياء، وسيد المرسلين، وهو أولُ من ينشقُ عنه القبرَ، وأولُ من تُفتَحُ له أبوابَ الجنةِ، وأولُ من ينالُ أعلى منازلَها، وهو صاحبُ المقامِ المحمودِ وهو صاحبُ الوسيلةِ، والشفاعةِ العظمى، الذي غفر ما تقدم من ذنبه وما تأخر كان يطيلُ قيامَه وصيامَه.
وكان يطيلُ سجوده وتهجدَه ويقولُ: ((يا مقلبَ القلوب، يا مقلب القلوب، يا مقلب القلوب)).
فيا عباد الله اسألوا الله بهذا الدعاء، اسألوا الَله الذي بيده النواصي، اسألوا الله الذي بيده القلوب- وهي بين أصبعين من أصابع الرحمن التي تليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه- اسألوا الله أن يثبتَ قلوبنا وقلوبكم على الإيمان.
وأن يعصمَكم من الزيغِ والضلالةِ، ومن الغوايةِ بعد الهداية، ومن الفسادِ بعد الصلاح.
وأنتم يا شباب المسلمين: إن الكثيرَ منا وإن الكثير من شبابنا يسوفون التوبةَ، ويؤجلون الإنابةَ، وينشغلون بالعبثِ، ويلهونَ في الباطلِ ظناً منهم بأن الحياةَ أمامَهم وهم في ريعانِ الشبابِ وفي ربيعَ العمرِ، وفي زهرةِ الدنيا، يظنون أن الاستقامة تعقيد، وأن الطاعة وسوسة، وأن الإخبات لله تضييق وتشديد.
لا والله يا عباد الله، إننا نفوتُ على أنفسِنا حظاً عظيماً من السعادةِ بقدرِ ما نفوتُه من الأعمالِ الصالحةِ.
واعلموا أن الموتَ ساعةً لا تتقدمُ، ولا تتأخر، فمن ذا الذي يضمنُ خروجَه من المصلى؟ ومن ذا الذي يضمنُ يقظتَه من فراشه؟ ومن ذا الذي يضمن عودتَه إلى بيته؟ ومن ذا الذي يضمنُ وصولَه إلى عمله؟
إذا كان هذا شأننا فيا عجباً لقسوةِ القلوب، لا تدري متى تُخطف وهي مع ذلك عابثةُ لاهيةٌ.
تزود مــن الدنيـا فإنـك لا تـدري إذا جنَ ليلُ هل تعيشَ إلى الفجـرِ
فكم من صحيحٍ مات من غيـرِ علـةٍ وكم من سقيمٍ عاش حيناً من الدهرِ
وكم من صغارٍ يرتجى طولَ عمرِهـم وقد أُدخلت أجسادُهم ظُلمةَ القبـرِ
وكم مـن عـروسٍ زينوها لزوجِهـا وقد نُسجت أكفانُها وهي لا تدري
فيا عباد الله استعدوا للقاء الله وبادروا بالتوبةِ، وبادروا بالخضوعِ والإنابةِ.
إنما هذه الدنيا متاعُ قليل وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ يُقْسِمُ ٱلْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ [الروم:55].
والله إن هذه الدنيا بما فيها من ملذاتٍ وشهواتٍ ومراكبَ وقصورٍ ودورٍ وضيعاتٍ وزوجاتٍ وجناتٍ، وأموالٍ وذرياتٍ لا تعدلُ غمسةً في نارِ جهنم.
وإن الشقاءَ في هذه الدنيا بما فيه من الفقرِ والمرضِ والسقم والذلةِ وضيق الحالِ لا يساوي غمسةً في نعيمِ الجنة.
يوم القيامةِ يؤتى بألذِ أهلِ الأرضِ حالاً و أيسرُهم عيشاً ثم يغمسُ غمسةً في وهي أقلُ من اللحظةِ أو أقل، جزء من أجزاء اللحظة، يغمس غمسة في النار فيقال: يا ابنَ أدمَ هل رأيتَ نعيماً قط؟ هل مر بك نعيمُ قط؟
فيقولُ: لا يا رب ما مر بي نعيمُ قط. ينسى نعيمَ الدنيا كلَه في غمسةٍ صغيرة دقيقة في النار.
ويؤتىَ بأشدِ أهلِ الدنيا بؤساً وفقراً ومرضاً فيغمسُ غمسةً واحدة في الجنة. ويقالُ: يا ابنَ آدمَ هل مر بك بؤسُ قط؟ هل مر بك شقاءُ قط؟
فيقولُ: يا رب ما مر بي شقاءُ، وما مر بي بؤسُ.
فلنعد لذلك اليوم، وهو يومُ لا بد أن نردَه على صراطٍ أدقَ من الشعرةِ و أحدَّ من السيفِ، والناسُ يمضون عليهِ على قدرِ أعمالِهم، وكلاليبُ جهنمَ عن يمينهِ وعن يسارهِ.
فمِن المؤمنين الذين يسعون ونورهم بين أيديهم مد أبصارهم من يمرون عليه كالبرقِ الخاطف، ومن المؤمنين من يمرونه كأجاويدِ الخيلِ، ومنهم من يمره كأسرعِ الناسِ عدواً، ومنهم من يحب على الصراط حبواً، ومنهم من يمضي عليه فتدركُه كلاليبُ جهنمَ.
أدركتُه أعمالُه السيئةِ، وتفريطُه في حقهِ وتضييعُه وتقصيرُه في جنبِ الِله وطاعة الله.
فلنعدَ لذلك اليوم، ولنعدِ لدار سوف نسكُنها وسوف نبقى فيها.
والله ما نفعَ أهلُ الأموالِ أموالهَم. أين الملوك، أين الوزراء، أين الأمراء، أين الرؤساء، أين الخلفاء؟ أين الذين ذهبوا، أين الذين ملكوا،أين الذين نالوا، أين الذين جمعوا ؟ أين الأثرياء؟ أين الكبراء؟
لقد ودعوهم وودعناهم في حفرةٍ لا فراشَ فيها ولا خادم فيها، ولا مائدة عندها، ولا باب إليها، ولا نورَ يضيئها، ولا هواء يهويها.
لا شيء فيها إلا خرقة بيضاء يحسدُك الدودُ عليها فينتزعُها من جسمك ولا يتركها لك.
كتب اللُه أن تعود إلى هذه الدنيا في نهايةِ المطاف وفي خاتمةِ الأمرِ كما نزلت عليها.
حتى كفنُك ينازعُك الدودُ فيه فيقرضه منك خيطاً خيطاً، وشعرةً شعرة ينتزعه من جسدك.
فإن منّ اللهُ عليك وكنتَ من الصالحينَ عوضك الله عن هذا الكفن أبواباً إلى الجنانِ ونعيماً مقيماً في دارِ الخلودِ، فتُفتح لك أبوابُ الجنةِ ويضاءُ لك القبرُ وتأنس بعملِك الصالحَ وتبقى زاهياً متغنياً تقولُ: رب أقم الساعة، رب أقم الساعة.
وإن كنت من أهلِ الشقاءِ، من أهل الضياع، من الذين ضاعت أموالُهم في الربا، وتركوا المساجدَ وغفلوا عن الجماعات، وضيعوا حقوقَ الله وضيعوا محارمَ الله في كل سفرٍ، وفي كل ذهابٍ وإياب لا يرعون حرماتِ الله، يواقعون الفواحش لا يبالون.
فإنك لا تجني من الشوك العنب، وكل سيلقى عمله أمامه.
يا غافـلاً عن العمل وغرَه طـولُ الأمـل
الموتُ يأتـي بغتـةً والقبرُ صندوق العمل
انظروا واجمعوا في صناديقكم.
لو زار كلُ واحدٍ منا قبَره في الأسبوعِ مرهً، في الشهر مرة، في نصف الشهر مرة، وأنت تنظر،ُ هذا صندوقي، هذا فراشي، هذه داري، سأسكنها وحدي.
هل وضعت فيها عملاً صالحاً، أم أودعتها خيبة وضياعاً وحرماناً وحسرة.
أسأل الله أن يحسن لنا ولكم الخاتمة.
أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يحسن لنا ولكم الخاتمة.