المرحلة الاجتماعية
( 23 )
( 24 )
( 25 )
( 26 )
( 27 )
بعدما لمس الطفل كل شيء واستكشف جميع الأماكن بعدة أشهر ، تكون أمه قد تعبت وأملت الحصول على الإستراحة التي ستجدها بالفعل بعد بلوغ طفلها سن السنتين وحتى السنتين والنصف . هذه مرحلة ساكنة نسبياً فيها يجد الطفل توازنه ، ويصبح اجتماعياً يتفاهم مع محيطه بسهولة لأنه يعبّر بشكل أفضل . في الواقع ما يهمّه الآن ، هو أن يتكلم حتى يتعب ، تماماً كما كان لا يملّ من الحركة في السابق . بعدما وضع الأشخاص والأشياء كلاّ في مكانه الخاص ، يريد الآن إعطاء كل غرض اسمه ووظيفته الخاصة . لمعرفة أسماء الأغراض يشير باصبعه إلى كل منها متسائلاً وقائلاً « وهذا ؟ ... وهذا ؟ ... » وبعد أن يحصل على الجواب يردّده كالببغاء . ثم يطرح السؤال نفسه على شخص آخر ، بلا ملل ، ليتأكد من معلوماته وليسمع الكلمة الجديدة مرة أخرى . عملية الترداد هذه هي وسيلته ليتعلم . كل شيء يفيد لتحسين لغته . يردّد أسماء الأشخاص المحيطين به ، يعدّ ألعابه وألعاب أخوته مشيراً إليها . ويذكر اسم مالك كل من هذه الألعاب . منطق الطفل يجعله يربط كل غرض بمالكه ولا يجب أن تتنقل الأغراض بين أشخاص مختلفين لا يفهم مثلاً كيف أن جدّته تنتعل حذاء أمه . يتذكر الطفل ما أكله في الصباح وظهراً وفي المساء وحتى في البارحة إذا سعفته | ذاكرته . يريد معرفة مكان وجود أبيه وأخته وصديقه الذي تعوّد أن يلعب معه . يحاول ، من خلال كل ما يقول ، أن يوجّه نفسه في هذا العالم ، أن يجد مكانه ، ويفهم نفسه ؛ عندما يكون بمفرده يردّد الكلمات التي تعلمها ويحلّل كل ما قام به . هذه الحالة هي بداية حديث منفرد يدوم سنوات و حتى عمر الست أو السبع سنوات . هكذا ، يمضي ساعات ، يتكلم خلالها وحده أو يخاطب لعبته ويحقق تقدّماً ملموساً في عوالم اللغة . ما يقوله ليس فقط كلمات جديدة تعلمها ، بل هو أسلوب جديد للتعبير بسهولة . وشيئاً فشيئاً يبتعد عن لهجة الأطفال . اللغة هي المجال الذي يظهر الفرق واضحاً بين طفل وآخر . نرى طفلاً يعرف سبعين كلمة في سن السنتين وثلاثمئة كلمة في السنتين والنصف ؛ وقد نرى طفلاً آخر لا يعرف سوى خمسين كلمة في عمر السنتين ومائة عند بلوغه السنتين والنصف . في هاتين الحالتين ، الأطفال طبيعيون للغاية . أما الفروقات فبإمكانها الاستمرار مدى الحياة : إن أسس اللغة لدى إنسان بالغ عادي تحوي ألف وخمسمئة كلمة ؛ لدى البالغ المثقّف ثلاثة آلاف كلمة ، ولدى العالم خمسة آلاف كلمة . من أين تأتي هذه الاختلافات ؟ أولاً من الإمكانات الفردية التي تجعل بعض الأطفال يتكلمون باكراً ، تماماً كما يمشي البعض قبل غيرهم . لكن ذلك لا |
( 23 )
( 24 )
يفسّر كل شيء لأن دور المحيط الذي يعيش فيه الطفل هو أساسي . ليتكلّم الطفل بشكل طبيعي يجب أن يحاط بالعاطفة والتفهّم . يجب أيضاً أن يستمع إلى أشخاص يتكلّمون حوله ويخاطبونه ، ومن الضروري أن نردّ على أسئلته وأن نشجّع جهوده بلهجة لطيفة من دون أي تحريف للكلمات . من الواضح أن الطفل الذي يتلقّى عناية مباشرة من أمه و يشاركها حياتها اليومية ، خصوصاً عندما تحادثه ، يتطوّر من حيث اللغة بشكل أفضل من طفل آخر في عهدة حاضنة لا يسمع منها سوى بعض العبارات القاسية أو المختصرة من النوع التالي : « إشرب الحساء ... إذهب إلى الحمّام ... أسرع ... ألا تخجل ؟ إغسل يديك ، بسرعة ... لا تتحرّك ... لن تحصل على الحلوى لأنك وسّخت ثيابك ... وإلخ » . في دور الحضانة حيث لا أحد يكلّم الأطفال نرى هؤلاء لا يحققون أي تقدّم لغوي وينطوون على أنفسهم . ويرى علماء النفس أن هذا التأخر اللغوي الناتج عن إهمال محيطهم إياهم ، يؤدي إلى مصاعب تظهر بوضوح عندما يبدأ الطفل بتعلّم القراءة والكتابة . عندما تشعرين بأن طفلك بلغ المرحلة الحسّاسة للغة ( أي حين يطرح الكثير من الأسئلة ويظهر اهتماماً وشغفاً حيال أجوبتك ) تكلّمي معه باستمرار وبوضوح ؛ أجيبي عن أسئلته بصبر . عندما يتعلّم الكلمات المتداولة : النوم ، الماء ، الخبز ، العطش ، إلخ .. وسّعي معلوماته اللغوية باستعمالك كلمات جديدة . فهذه الأخيرة تفتّح ذكاءه . سيأتي وقت يحتاج فيه إلى التفكير في الكلمات كي ينمو ، تماماً كما يحتاج الجسم إلى الغذاء كي يتنشط . يطرح الطفل الأسئلة بلا توقّف ، وقد رأيت أن فضوله لا يسأم . هو متشوّق لمعرفة أسماء الأشياء كما كان متشوّقاً لرؤيتها ومن ثمّ لمسها . هذا الفضول طبيعي ولا يفتقده سوى الطفل المتأخر أو غير المكتفي . | الفضول يدفع الطفل إلى السؤال « ما هذا ؟ .. وهذا ؟ .. » ؛ الفهم يمكّن الطفل من استيعاب الشروحات . الذاكرة تسجّل الكلمات وكل ما يرافقها من ظروف وتصرّفات وصور . إنّ ممارسة هذا التمرين باستمرار تجعل الطفل ماهراً في تفكيره ، وتمكّنه من إيجاد الكلمات والعبارات المناسبة بسرعة أكبر ليستعملها في التعبير عمّا يجول في رأسه . يضيف الطفل ، كل يوم ، كلمة أو أكثر إلى لغته فيوسّع بذلك نطاق معرفته . هذا المخزون من الكلمات يساعد الطفل على إظهار « ذكائه » فيوجه اهتمامه نحو الأشياء الأكثر تعقيداً ويواجه كل جديد وكل ما هو غريب ، يحاول اكتشاف المجهول ويفاضل بين كلٍ ما يرى و بين اختباراته السابقة . ويتمكّن أخيراً من الوصول إلى النتائج . بصورة عامة يتطوّر ذكاء الطفل بسرعة ويظهر كردة فعل طبيعية . مثلاً عندما كان بعمر السنة إذا رأى الطفل غرضاً على طاولة مرتفعة ، لم يكن باستطاعته ابتداع طريقة لتناوله . عند بلوغه السنة والنصف أصبح يجرّ كرسياً ويصعد عليه ويأخذ الغرض ؛ أو أنه يستعين بعصا لإسقاطه . إذا منع عن لمسه ، كان في الماضي يرضخ لأوامر أهله . أمّا بعد بلوغه السنة والنصف فإنه سينتظر حلول الليل أو غياب أهله للتسلّل . والحصول على الغرض المرغوب فيه . هذه العملية تظهر ذكاءه لأنه يجد الحلول بفضل تفكيره . نلفت انتباهك هنا إلى بعض الظروف التي يمر بها الطفل : في هذا العمر ، يظهر عند الأطفال ، حتى الطبيعيين جداً منهم ، خوف جديد ورعب في الليل والعتمة والمطر والمحرّكات الكهربائية وبعض الحيوانات وحتى بعض الأشخاص ، يقاوم الطفل خوفه وعدم شعوره بالأمان باتّباع عدد من العادات التي تؤمّن له الاستقرار . عند الطعام ، سيغضب مثلاً إذا وضعت لعبته بعيداً عنه أو إذا أطعمته بصحن جديد . لكنه يبدو أكثر قلقاً خصوصاً في موعد نومه ، فيراقب موضع ثيابه على الكرسي وستائر النافذة إذا تحرّكت ، والباب إذا كان مفتوحاً أو مغلقاً ، |
( 25 )
ويريد أخيراً ألاّ تكون جميع هذه التفاصيل مختلفة بين يوم وآخر . عندما ينام الطفل وحيداً يشعر بأنه مهمل . تستطيعين أن تطمئنيه بسرد أقصوصة وأن تتركي باب غرفته مفتوحاً ليدخل منه ضوء خافت . لكن لا تضعيه في سريرك لأنه يجب أن يتعوّد شيئاً فشيئأ وجوده بمفرده في سريره الخاص . وهذه خطوة أولى ومهمة لبناء شخصيته المتفرّدة . اكتشاف الذات سيطراً حدث مهم بين سن السنتين والنصف والثلاث سنوات ، ممّا يسبّب اضطراباً في حياة الطفل وحياتك أنت في الوقت نفسه . أولاً اكتشف وجودك أنت أمه . ثم تنبّه إلى وجود شخص آخر بقربك يقوم بدور مهم هو الأب . سيكتشف الآن ثالثاً أي هو نفسه . هذا الاكتشاف لا يتمّ في يوم واحد بالطبع . لكن من الواضح أن الطفل في هذه السن يلاحظ ويعي أنه شخص كجميع الأشخاص المحيطين به . نستطيع القول إن الطفل عندما يبلغ الثلاث سنوات يعلم أنه | صبي أو بنت ، ويميز بين الفتيان والفتيات ، كما يعلم أنه طفلك وليس طفل الجيران . يتعرّف على نفسه في المرآة ويميّز الالوان . في هذه السن يصبح الطفل واعياً قدراته الجسدية فيقول : « أنا قوي ، أنا كبير ... » ، يعرف اسمه ويردّده ، يعلم أنه شخص مختلف عنك وعن أبيه . كلمتان تؤكدان ذلك : الـ « أنا » التي يستعملها والـ « لاّ » التي يستغلّها . « أنا » تعني دوره وتدل على الذات : أنا أكلّمك أنتِ ، أنا مختلف عنك أنتِ التي تسمعينني . يقول الطفل « لا » لمعارضة شخص ما . « أنا » و« لا » هما تجسيد للمكان الذي يشغله طفلك في عالم البالغين . هذه الاكتشافات تشكّل الجزء الأطول والأكثر إثارة في نفسية طفلك ، وأيضاً الأكثر صعوبة . إذ إن المراحل دقيقة للغاية والتطوّر لا يلاحظ بسهولة . كذلك الطفل لا يساعدك على تفهّم آرائه لأنه لا يتفوّه بكلمة لكي تكتشفي متى يلاحظ الطفل أنه كائن مستقل عن |
( 26 )
الآخرين ، أي أن له جسداً . راقبي تصرّفاته أمام المرآة ، ويكف يتأمّل يديه وقدميه ، لتعرفي كيف ينظر إلى الآخرين ويثبت وجودهم في وعيه ويفرّق بينهم وبينه ذاته . في عمر الثلاثة أشهر ، عندما يوضع الطفل أمام المرآة ، ينظر إليها نظرته إلى أي غرض آخر . عند بلوغه الأشهر الستة يرى خيالك في المرآة فيفاجأ كما لو أنه يشكَ بوجود رابط بينك وبين صورتك . إذا تكلّمت تجدين عينيه تتنقلان بين شفتيك وصورتهما في المرآة ، دون أن يفهم السبب وكأنه يتساءل : كيف يمكن أن يكون وجه أمه هنا وهناك . ذلك من دون أن يشكَ بوجود علاقة بينه وبين صورته في المرآة . في العمر نفسه يمضي الطفل ساعات بمراقبة يديه . يديرهما ، يلعب بأصابعه ، يضع يداً في الاخرى لكنه لا يفرّق بين يده ويد أمه مثلاً . يأخذ يده ويدها ويضعهما كلتيهما في فمه ولا فرق . عندما تدعو الأم طفلها باسمه يدير رأسه صوبها ، ليس لأنه عرف اسمه بل لأنه يتجه نحو صوت أمه المألوف ، والذي يجب سماعه . مع الوقت تتطوّر علاقة طفلك بالمرآة . في عمر العشرة أشهر عندما يمدّ الطفل يده نحو المرآة ليلعب مع الطفل الذي يراه أمامه يفاجأ بملامسة الزجاج القاسي . عند بلوغه السنة ينظر إلى صورة والدته في المرآة ، يحدّق اليها جيداً ثم ينظر إلى والدته ( الحقيقية ) ويسميها « ماما » . هنا يكون قد خطا خطوة كبيرة إلى الأمام حين اكتشف أن الشخص نفسه يمكن أن يكون أمام المرآة وداخلها في الوقت نفسه . أمّا بالنسبة إليه هو شخصياً فلا يزال الطفل الذي يراه في المرآة غريباً عنه . عندما يتعلّم الطفل المشي يكتشف أن له جسماً وأن ساقيه وساعديه هي خاصته . وكلما خطا خطوة واحدة تصفّق أمّه له فيعرف أنه هو المعني بالأمر ، فيعاود الكرّة ويسقط ويرتطم رأسه بالأرض . يحسّ أن جزءاً منه يتألم فيلجأ إلى حماية رأسه كلّما سقط . عندما يعضّ يده ويتألّم يعرف أن هذه اليد له ولا يعاود الكرّة . عندما | ترتطم قدمه بالكرسي وتؤلمه يعرف على الفور أنه ارتطم بالكرسي أي أنه مختلف عن الكرسي . يستنتج أن الكرسي شرير ولا يعود يلمسه مجدداً . في هذه المرحلة يتعرّف الطفل إلى اسمه ويردّ عندما يناديه أحد . عند بلوغه السنة والنصف يكتشف الطفل فجأة أن هذا الطفل الموجود داخل المرآة هو « هو » ... ، فيشعر بفرح عظيم ، ولا يعود يفارق المرآة ، ويقوم بحركات هزلية ويراقب نفسه . نلاحظ في هذه المرحلة أنه لا يزال يجد صوره الفوتوغرافية غريبة عنه . ذلك لأن هذه الصور جامدة بينما صورته في المرآة تعكس حركاته . لكنه يتعرّف إلى أهله في الصور . وهذا يؤكد قولنا بأن الطفل يعرف الآخرين قبل أن يتعرّف إلى نفسه . بعد السنتين يكتشف الطفل أنه يستطيع التأثير على الآخرين بإضحاكهم وإزعاجهم وتسليتهم ورفض طلباتهم . رغم أنه قد انفصل عن الآخرين ، إلاّ أنه لا يزال يتكلّم عن نفسه وكأنه غريب ، يقول : « بابا يخرج مع الطفل » . هو لا يدري أن الممثّل والمتفرج هما الشخص نفسه أي هو نفسه . بعد الثلاث سنوات لا يعود الطفل يهتم بالمرآة وينقل اهتماماته إلى الصور حيث يتعرّف إلى نفسه بسهولة فيشير إلى صورته ويستعمل تعبير « الأنا » باستمرار أما كلمة « نحن » فلا يردّدها الطفل قبل عمر الأربع سنوات . « نحن » هي الدليل على دخوله المجتمع فعندما يقول كلمة « نحن » ، يشرك الآخرين معه . ____________________________ يتأمل في المرآة فيرى طفلاً . يمد يده ليلامس الطفل الذي يراه أمامه فيفاجأ بملامسة الزجاج القاسي . بعد أن يكتشف الطفل أن أمه يمكن أن تكون أمام المرآة وداخلها في الوقت نفسه ، يظل يحسّ ان صورته هو في المرآة ، تمثل طفلا غريباً عنه . |
( 27 )