الآلام النفسيّة
( 13 )
( 14 )
طفلك الصغير الذي كان يبكي بسبب ألم في بطنه ، سوف يكتشف الآن أن باستطاعته ذرف الدموع تعبيراً عن قلقه لأنك ابتعدت عنه قليلاً . يتألم الإنسان بسبب الحب في مختلف الأعمار وهذا ما يحدث لطفلك . كيف يولد شعور بمثل هذا العمق في قلب صغير كهذا ؟ بكل بساطة ، من خلال الأعمال والتصرّفات المتكررة على مرّ الأيام . عندما يجوع الطفل ، تطعمه أمّه . يبلّل نفسه ، تغيّر له حفّاضاته . يبكي فتأخذه بين ذراعيها . حين لا يجد النوم ، تهزّ سريره أو تحتضنه كي ينام . ترتسم على شفتيه ابتسامة فترد عليه بمثلها . يُصدر أصواتاً فتستمع إليه . بعبارة واحدة نقول : من خلال أمه يشبع الطفل جميع رغباته ويحصل على حاجاته كلها . هي التي تؤمّن له متعته . الإنسان يحبّ بالطبع من يؤمّن له السعادة . بعد عدة أسابيع ، يصبح وجه الأم مركز حبّ الطفل المطلق ، الذي تعود على تمييزه من بين الوجوه الأخرى . وأصبح وجود أمّه قربه ضرورة حيوية ، إذا فقدها تعرّض الطفل إلى اضطرابات خطيرة تصيبه على الفور أو في المستقبل . يحتاج الطفل إلى شخص يحبّه كي ينمو بشكل طبيعي فإذا أهمل فسيعاني آلاماً كثيرة . الحبّ بالنسبة إلى الطفل ، ضرورة لا بدّ منها مثل الفيتامينات لجسده . | والأسابيع الأولى من حياة الوليد هي المرحلة الأكثر دقة لأن أعضاءه تتكوّن خلالها . كذلك هي الأشهر الأولى من حياته ، فخلالها يتعرّف على محيطه . وإذا لم يتلقّ الحبّ الكافي والعناية الدقيقة في هذه المرحلة فيستأخّر نموه . أنت وحدك ، أمّه ، القادرة على إعطائه الحبّ . أنت محور حياته ، ويستمد توازنه كلّه من رعايتك إيّاه . في هذه المرحلة يشرق وجه الطفل بابتسامته الأولى ، يتفوّه بأولى كلماته ويقوم بأول خطوة . هذا يعني أن أسس الحياة والقلب ، والجسد وكلّ تقدّم ، تنمو من خلال الأم . الانفصال عن الأم عندما تكون الأم غائبة وحاجات الطفل العاطفية غير مشبعة ، يعاني الطفل ممّا يسمّى بالنقص العاطفي . وتتفاوت خطورة النتائج والتأثيرات عليه تبعاً لأهمية هذا النقص . لكن لابدّ من التمييز بين مختلف الحالات : هناك أولاً الأطفال المحرومون كلياً من رعاية الأم ، كاليتامى . وهناك الأطفال الذين يتلقون عناية غير كافية من أمهاتهم ، كأن تكون شخصية الأم تفتقر إلى الحنان أو أنها تغيب عن المنزل باستمرار . وهناك أخيراً الأطفال المحاطون بالعاطفة ولكنهم منفصلون عن أمهاتهم لمدة معيّنة بسبب المرض أو الطلاق أو ما شابه . |
( 13 )
الأطفال الذين لم يتلقوا أية عناية من أمهاتهم لن يتعرّفوا أبداً على سعادة الوجود بين يدي إنسان يحبّهم . ستنقصهم دائماً تجربة المبادلة . إنّ نمو هؤلاء الأطفال وتوازنهم مرتبطان بنوعية العاطفة التي يتلقونها من المحيط الذي يستقبلهم . إذا حالفهم الحظ وتبنتهم إحدى العائلات منذ الأشهر الأولى من حياتهم وأحاطتهم بالعاطفة فبإمكانهم النمو بشكل طبيعي . في الحالة الثانية ، إذا تركوا فترة طويلة بمفردهم في السرير وأهملو عاطفياً ، أو اعتنى بهم عدة أشخاص بشكل فوضوي فسينقصهم يوماً بعد يوم المحرّك الضروري لإيقاظ فطنتهم ووجود العاطفة المستمر والضروري لبناء شخصيتهم . سيكون هؤلاء ضعفاء في جميع المجالات ، وغالباً يعانون من تأخّر في نموّهم العام . ردات فعل الطفل على النقص العاطفي مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بطول مدة هذا النقص ؛ أي إن حدة الاضطراب تختلف فيما لو دام النقص عدة أيّام أو عدة أسابيع أو عدة أشهر . بين الثمانية والخمسة عشر يوماً ، يعبّر الطفل عن حزنه ، حسب مزاجه ، قد يعبّر بعنف فيصرخ ويبكي . أو بالعكس من دون أي ضجيج فيلتزم الصمت ، ويصبح جامداً ، ينظر في الفراغ غير مبال بما يحيط به ، لا ينام جيداً ، ولا يأكل جيداً ، ويفقد من وزنه . إذا استمرّت حالة النقص العاطفي عدة أسابيع ستظهر اضطرابات أشدّ خطورة . إضطرابات هضمية ( كالإسهال أو الإمساك ، اللذين يستعصيان على كل علاج ، والقيء وإلخ ... ) . وقد يصاب الطفل بزكام خفيف ولكنه لا ينتهي . أو يتعرّض لإصابات أكثر خطورة كذات الرئة . وكأن النقص في الحب يجعل الجسد ضعيفاً وأشدّ تعرضاً للإصابة بالأمراض والميكروبات . في بعض الأحيان ، بعد أن يتعلّم الطفل المشي يتوقف فجأة ، أو بعدما كان نظيفاً يعود ويبلّل ثيابه . بعض الأطفال يفقدون الشهية تماماً والبعض | الآخر ، بالعكس ، يرتمي على الطعام ويلتهمه : في هذه الحالة يحاول الطفل التعويض من الحب بالطعام . إذا استمرّ إهمال الطفل أكثر من أربعة أشهر ، ستتفاقم الاضطرابات وتترك آثاراً لا تمحى فيعاني الطفل طوال حياته ، من توتر في الأعصاب ، ويصبح غير قادر على التأقلم مع أي تغيير مهما كان صغيراً . أمّا إذا حرم الطفل من الحبّ خلال السنة الأولى من حياته فالاضطرابات ستصيب أعصابه وعضلاته أو شخصيته ، وأحياناً تعيق نموّه . طفل كهذا قد يرفض أن يمشي أو يتأخر كثيراً ليقوم بالخطوة الأولى . وآخر قد يرفض أن يتكلّم أو يتفوّه بلغة الأطفال وقتاً طويلاً . في أحوال أشدّ خطورة يقوم الطفل بتصرّفات غير طبيعية ويصبح غير مبال تجاه كل الأمور . الانفصال عن الأم لفترة معيّنة نعرض هنا وضع الأطفال المحاطين بأمهاتهم بشكل طبيعي لكنهم يجدون أنفسهم منفصلين عنها وقتاً معيّناً . حتى ولو أحيط هؤلاء الأطفال بالحب الكافي فإنهم سيعانون من جرّاء الانفصال . الاضطرابات التي تصيبهم هي نفسها التي سبق ذكرها ولكن بوطأة أخف بكثير ، كما أنها تتلاشى إذا اهتم بهؤلاء الأولاد أحد يحبّهم ويعتني بهم جيداً كجدتهم مثلاً . تبقى حساسية الطفل مرهفة تجاه الانفصال عن أمه حتى عمر الثلاث سنوات . لكنه أكثر تعرّضاً لتأثير الانفصال السلبي حتى عمر السنتين . في الواقع أن حاجات الطفل العاطفية هي رئيسة وضرورية حتى بلوغ الطفل هذا السن وبديهي كم هو صعب إفهامه الأسباب الحقيقية للانفصال والتي لو كان بإمكانه استيعابها ، لشفي من بعض اضطراباته . بعد عمر الثلاث سنوات تتفاعل الاضطرابات الناتجة عن غياب الأم بحسب طبع الطفل ولكنها أقل خطورة ، لأن شخصية الطفل قد بنيت قبل هذه السن . |
( 14 )
الطفل أقل عرضة للمتاعب بعد الخمس أو الست سنوات وهو بالتالي يستطيع تحمّل الانفصال عن أمه بقدر ما كانت العلاقة العاطفية وطيدة بينهما قبل الانفصال . مزاج الطفل منذ أول أيام حياته يتمتع الطفل بمزاج معينّ . بعض الأطفال يبدون أقوياء ، قليلي المطالب ويتحملون جيداً بعد أمهم عنهم خلال النهار . بعضهم الآخر عصبي المزاج ، كثير الحركة وهو بحاجة إلى انتظام أكثر في حياته ، أي في مواعيد الطعام . أيّ تأثير غير متوقع يؤدي إلى توتر أعصاب هؤلاء الأطفال ، والبعض الآخر أيضاً سريع العطب وأي تغيير في عاداته يؤثر سلباً على صحته . هذه الحالات التي ذكرنا ليست سوى أمثلة تفسّر كيف أن كل طفل يتعامل مع النقص العاطفي بطريقة مختلفة عن طرق سائر الأطفال . إذا عدت واجتمعت بطفلك بعد مدة طويلة من الانفصال عنه لا تتوقعي أن يتجاوب معك ، بل إنه سيكون مرتبكاً حتى إنه قد يدير وجهه إلى الناحية الأخرى عندما يراك . لا تحاولي الدخول إلى حياته بيوم واحد فطفلك قد تعوّد وجهاً آخر وهو بحاجة إلى الوقت كي يألفك من جديد . واحفظي جيداً التالي : لا تدخلي تغييراً مفاجئاً على حياة طفلك وإذا اضطررت الى أن تتركيه بعهدة أحد فيجب أن تؤمني لطفلك الجو الذي يشعره بالأمان . إذا كنت تعملين خارج البيت كيف سيتحمل طفلك غيابك خلال ساعات طويلة من النهار وهو في أمسّ الحاجة إليك ؟ سيتحمّل ذلك جيداً ، إذا اتخذت الاحتياطات اللازمة . عليك أن تقدّمي لطفلك ما ينتظره منك عندما تعودين إلى المنزل في المساء : أن تكوني فرحة بلقائه . هذا ليس سهلاً بالطبع فأنت متعبة بلا شك ، لكن | النتيجة تستحق المجهود الذي ستقومين به . إذا نجحت لقاءاتكما المسائية فقد قمت بجزء كبير من مهمتك . ثم حاولي أن تستغلي جميع الفرص لتمضي وقتك معه . خصصي له معظم الوقت الذي تقضينه في المنزل . الوقت الذي يمضيه معك يعوّض عن غيابك في أثناء النهار . وهذا أفضل بكثير من أي هدية تقدمينها له . بعض الأمهات العاملات يتجه نحو تدليل الأطفال بواسطة شراء الألعاب ليعوضن عن النقص العاطفي ، وهذا خطأ . يجب أخيراً أن تكوني موجودة عند حصول تغيير مهم في حياة طفلك مثلاً عندما يأكل بالملعقة أوّل مرة ، أو عندما يتناول أي طعام غير الحليب أول مرة . الطفل يدرك بسرعة أن أمّه تعمل لعائلتها وله بشكل خاص ، وعندما يبلغ عمراً يسمح له أن يعي ذلك فإنه سيكون فخوراً بك . إعلمي في النهاية أن أهم شيء بالنسبة إلى الطفل ومن أجل توازنه ، ليس عدد الساعات التي تمضيها أمه معه ، بل نوعية العاطفة التي تقدّمها اليه . ____________ ردّات فعل الطفل على النقص العاطفي تختلف باختلاف طباع كل طفل ومزاجه الخاص . قد تكون ردات الفعل هذه من نوع الصراخ والبكاء تعبيراً عن الحزن ، وقد تكون صامتة فيبدو الطفل جامداً يحدق في الفراغ . أو هو قد يلجأ إلى تسلية نفسه والتخفيف من قلقه بامتصاص احد أصابع يده |