فوائد غض البصر
فوائد غض البصر
في غض البصر عدة منافع :
أحدها : أنه امتثال لأمر الله ، الذي هو غاية سعادة العبد في معاشه و معاده ؛ و ليس للعبد في دنياه و آخرته أنفع من امتثال أوامر ربه تبارك و تعالى ، و ما سعد مَنْ سعد في الدنيا و الآخرة إلا بامتثال أوامره ، و ما شقيَ مَنْ شقي في الدنيا و الآخرة إلا بتضييع أوامره .
الثانية : أنه يمنع منْ وصول أثر السهم المسموم الذي لعل فيه هلاكه إلى قلبه .
الثالثة : أنه يُورث القلب أنساً بالله و جمعيَّة على الله ؛ فإنَّ إطلاق البصر يفرق القلب ، و يشتِّته ، و يبعده عن الله ، و ليس على القلب شيء أضر منْ إطلاق البصر ؛ فإنه يوقع الوحشة بين العبد و بين ربه .
الرابعة : أنه يُقَوِّي القلب و يُفرحه كما أنَّ إطلاق البصر يضعفه و يحزنه .
الخامسة : أنه يُكسب القلب نوراً كما أنَّ إطلاقه يُكسبه ظلمة ، و إذا استنار القلبُ أقبلتْ وفود الخيرات إليه منْ كل ناحية كما أنه إذا أظلم أقبلتْ سحائبُ البلاء و الشر عليه منْ كل مكان فما شئتَ منْ بدع ، و ضلالة ، و اتباع هوى ، و اجتناب هدى ، و إعراض عن أسباب السعادة ، و اشتغال بأسباب الشقاوة ؛ فإنَّ ذلك إنما يكشفه له النور الذي في القلب ، فإذا فُقِدَ ذلك النور بقي صاحبُه كالأعمى الذي يجوس 1 في حنادس 2 الظلمات .
السادسة : أنه يُورث فراسة صادقة يميز بها بين الحق و الباطل و الصادق و الكاذب .
و كان شاه بن شجاع الكرماني يقول : ( مَنْ عمرَ ظاهرَه باتباع السنة ، و باطنَه بدوام المراقبة ، و غضَّ بصرَه عن المحارم ، و كفَّ نفسه عن الشهوات ، و اغتذى بالحلال لم تخطئ له فراسة ) 3 .
و كان [ ابن ] شجاع هذا ؛ لا تخطيء له فراسة 4 .
و الله سبحانه يجزي العبد على عمله بما هو منْ جنس عمله ، و مَنْ ترك لله شيئاً عوضه الله خيراً منه .
فإذا غضَّ بصرَه عن محارم الله عوَّضه الله بأنْ يُطلق نورَ بصيرته عوضاً عن حبس بصره لله ، و يفتح عليه باب العلم و الإيمان و المعرفة و الفراسة الصادقة المصيبة التي إنما تنال ببصيرة القلب .
و ضدُّ هذا ما وصف الله به اللوطية منَ العمه الذي هو ضد البصيرة ، فقال تعالى : ( لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون ) - الحجر : 72 ، فوصفهم بالسكرة التي هي فساد العقل ، و العَمَه الذي هو فساد البصيرة .
فالتعلق بالصور يُوجب فسادَ العقل و عَمَه البصيرة و سُكر القلب .
السابعة : أنه يورث القلب ثباتاً و شجاعة و قوة .
فجمع الله له بين سلطان البصيرة و الحجة و سلطان القدرة و القوة .
و ضد هذا تجده في المتبع هواه مِنْ ذلِّ النفس و وضاعتها و مهانتها و خستها و حقارتها و ما جعل الله سبحانه فيمَنْ عصاه ، كما قال الحسن : ( إنهم و إنْ طقطقت بهم البغال و هملجت بهم البراذين ؛ إن ذلَّ المعصية لا يفارق قلوبَهم ، أبى الله إلا أنْ يُذلَّ مَنْ عصاه ) 5 .
و قد جعل الله سبحانه العز قرين طاعته و الذل قرين معصيته ، فقال تعالى : ( و لله العزة و لرسوله و للمؤمنين ) - المنافقون : 8 ، و قال تعالى : ( و لا تهنوا و لا تحزنوا و أنتم الأعلون إنْ كنتم مؤمنين ) - آل عمران : 139
و الإيمان : قول و عمل ، ظاهر و باطن ، قال تعالى : ( مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَ الَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَ مَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ ) - فاطر : 10 ، أي : مَنْ كان يريد العزة فليطلبها بطاعة الله و ذِكره منَ الكلم الطيب و العمل الصالح .
و في دعاء القنوت : " إنه لا يذلُّ مَنْ واليت و لا يعزُّ مَنْ عاديت " 6
و مَنْ أطاع الله فقد والاه فيما أطاعه فيه ،و له منَ العزّ بحسب طاعته ،و مَنْ عصاه فقد عاداه فيما عصاه فيه ، و له منَ الذلّ بحسب معصيته .
الثامنة : أنه يسد على الشيطان مدخله إلى القلب ، فإنه يدخل مع النظرة ، و ينفذ معها إلى القلب أسرع منْ نفوذ الهواء في المكان الخالي ، فيمثل له صورة المنظور إليه ، و يزينها ، و يجعلها صنماً يعكف عليه القلب ، ثم يَعِدُه ، و يمنِّيه ، و يُوقد على القلب نار الشهوة ، و يُلقى عليه حطب المعاصي التي لم يكن يتوصل إليها بدون تلك الصورة ، فيصير القلب في اللهيب ، فمِنْ ذلك اللهيب تلك الأنفاس التي يجد فيها وهج النار ، و تلك الزفرات و الحرقات ، فإنَّ القلبَ قد أحاطتْ به النيران منْ كل جانب ، فهو في وسطها كالشاة في وسط التنوُّر .
و لهذا كانت عقوبةُ أصحاب الشهوات للصور المحرمة : أنْ جُعِلَ لهم في البرزخ تنور منْ نار ، و أودعت أرواحهم فيه إلى يوم حشر أجسادهم ، كما أراها الله تعالى لنبيه صلى الله عليه و سلم في المنام في الحديث المتفق على صحته 7 .
التاسعة : أنه يفرغ القلب للفكرة في مصالحه و الاشتغال بها ، و إطلاق البصر يُنسيه ذلك ، و يحول بينه و بينه ، فينفرط عليه أمره ، و يقع في اتباع هواه و في الغفلة عن ذكر ربه . قال تعالى : ( وَ لَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَ اتَّبَعَ هَوَاهُ وَ كَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ) - الكهف : 28 ، و إطلاق النظر يُوجب هذه الأمور الثلاثة بحبسه .
العاشرة : أنَّ بين العين و القلب منفذاً و طريقاً يوجب اشتغال أحدهما عن الآخر ، و أنْ يصلح بصلاحه ، و يفسد بفساده ؛ فإذا فسدَ القلبُ فسدَ النظرُ ، و إذا فسدَ النظرُ فسدَ القلبُ ، و كذلك في جانب الصلاح .
فإذا خربتْ العين و فسدتْ خربَ القلبُ و فسدَ و صار كالمزبلة التي هي محل النجاسات و القاذورات و الأوساخ ، فلا يصلح لسكنى معرفة الله و محبته و الإنابة إليه و الأنس به و السرور بقربه ، و إنما يسكن فيه أضداد ذلك .
----------
1- الجَوْس : طلب الشيء باستقصاء ، والتردد والطواف خلال البيوت والدور في الغارة .
2- الحِنْدس : الظلمة ، والليل المظلم .
3- انظر : حلية الأولياء (10/237) .
4- انظر : حلية الأولياء (10/237) .
5- انظر : الحلية (2/149) . والطقطقة : صوت حوافر البغال . والهملجة : الانقياد والذل . والبراذين : الدواب .
6- أخرجه : أبو داود (1425) والترمذي (464) والنسائي (1744) وابن ماجه (1178) من حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما .قال الترمذي : هذا حديث حسن . وصححه أحمد شاكر والألباني .
7- أخرجه : البخاري (7047) ومسلم (2275) من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه .
من كتاب الجواب الكافي لابن القيم رحمه الله
فوائد غض البصر
في غض البصر عدة منافع :
أحدها : أنه امتثال لأمر الله ، الذي هو غاية سعادة العبد في معاشه و معاده ؛ و ليس للعبد في دنياه و آخرته أنفع من امتثال أوامر ربه تبارك و تعالى ، و ما سعد مَنْ سعد في الدنيا و الآخرة إلا بامتثال أوامره ، و ما شقيَ مَنْ شقي في الدنيا و الآخرة إلا بتضييع أوامره .
الثانية : أنه يمنع منْ وصول أثر السهم المسموم الذي لعل فيه هلاكه إلى قلبه .
الثالثة : أنه يُورث القلب أنساً بالله و جمعيَّة على الله ؛ فإنَّ إطلاق البصر يفرق القلب ، و يشتِّته ، و يبعده عن الله ، و ليس على القلب شيء أضر منْ إطلاق البصر ؛ فإنه يوقع الوحشة بين العبد و بين ربه .
الرابعة : أنه يُقَوِّي القلب و يُفرحه كما أنَّ إطلاق البصر يضعفه و يحزنه .
الخامسة : أنه يُكسب القلب نوراً كما أنَّ إطلاقه يُكسبه ظلمة ، و إذا استنار القلبُ أقبلتْ وفود الخيرات إليه منْ كل ناحية كما أنه إذا أظلم أقبلتْ سحائبُ البلاء و الشر عليه منْ كل مكان فما شئتَ منْ بدع ، و ضلالة ، و اتباع هوى ، و اجتناب هدى ، و إعراض عن أسباب السعادة ، و اشتغال بأسباب الشقاوة ؛ فإنَّ ذلك إنما يكشفه له النور الذي في القلب ، فإذا فُقِدَ ذلك النور بقي صاحبُه كالأعمى الذي يجوس 1 في حنادس 2 الظلمات .
السادسة : أنه يُورث فراسة صادقة يميز بها بين الحق و الباطل و الصادق و الكاذب .
و كان شاه بن شجاع الكرماني يقول : ( مَنْ عمرَ ظاهرَه باتباع السنة ، و باطنَه بدوام المراقبة ، و غضَّ بصرَه عن المحارم ، و كفَّ نفسه عن الشهوات ، و اغتذى بالحلال لم تخطئ له فراسة ) 3 .
و كان [ ابن ] شجاع هذا ؛ لا تخطيء له فراسة 4 .
و الله سبحانه يجزي العبد على عمله بما هو منْ جنس عمله ، و مَنْ ترك لله شيئاً عوضه الله خيراً منه .
فإذا غضَّ بصرَه عن محارم الله عوَّضه الله بأنْ يُطلق نورَ بصيرته عوضاً عن حبس بصره لله ، و يفتح عليه باب العلم و الإيمان و المعرفة و الفراسة الصادقة المصيبة التي إنما تنال ببصيرة القلب .
و ضدُّ هذا ما وصف الله به اللوطية منَ العمه الذي هو ضد البصيرة ، فقال تعالى : ( لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون ) - الحجر : 72 ، فوصفهم بالسكرة التي هي فساد العقل ، و العَمَه الذي هو فساد البصيرة .
فالتعلق بالصور يُوجب فسادَ العقل و عَمَه البصيرة و سُكر القلب .
السابعة : أنه يورث القلب ثباتاً و شجاعة و قوة .
فجمع الله له بين سلطان البصيرة و الحجة و سلطان القدرة و القوة .
و ضد هذا تجده في المتبع هواه مِنْ ذلِّ النفس و وضاعتها و مهانتها و خستها و حقارتها و ما جعل الله سبحانه فيمَنْ عصاه ، كما قال الحسن : ( إنهم و إنْ طقطقت بهم البغال و هملجت بهم البراذين ؛ إن ذلَّ المعصية لا يفارق قلوبَهم ، أبى الله إلا أنْ يُذلَّ مَنْ عصاه ) 5 .
و قد جعل الله سبحانه العز قرين طاعته و الذل قرين معصيته ، فقال تعالى : ( و لله العزة و لرسوله و للمؤمنين ) - المنافقون : 8 ، و قال تعالى : ( و لا تهنوا و لا تحزنوا و أنتم الأعلون إنْ كنتم مؤمنين ) - آل عمران : 139
و الإيمان : قول و عمل ، ظاهر و باطن ، قال تعالى : ( مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَ الَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَ مَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ ) - فاطر : 10 ، أي : مَنْ كان يريد العزة فليطلبها بطاعة الله و ذِكره منَ الكلم الطيب و العمل الصالح .
و في دعاء القنوت : " إنه لا يذلُّ مَنْ واليت و لا يعزُّ مَنْ عاديت " 6
و مَنْ أطاع الله فقد والاه فيما أطاعه فيه ،و له منَ العزّ بحسب طاعته ،و مَنْ عصاه فقد عاداه فيما عصاه فيه ، و له منَ الذلّ بحسب معصيته .
الثامنة : أنه يسد على الشيطان مدخله إلى القلب ، فإنه يدخل مع النظرة ، و ينفذ معها إلى القلب أسرع منْ نفوذ الهواء في المكان الخالي ، فيمثل له صورة المنظور إليه ، و يزينها ، و يجعلها صنماً يعكف عليه القلب ، ثم يَعِدُه ، و يمنِّيه ، و يُوقد على القلب نار الشهوة ، و يُلقى عليه حطب المعاصي التي لم يكن يتوصل إليها بدون تلك الصورة ، فيصير القلب في اللهيب ، فمِنْ ذلك اللهيب تلك الأنفاس التي يجد فيها وهج النار ، و تلك الزفرات و الحرقات ، فإنَّ القلبَ قد أحاطتْ به النيران منْ كل جانب ، فهو في وسطها كالشاة في وسط التنوُّر .
و لهذا كانت عقوبةُ أصحاب الشهوات للصور المحرمة : أنْ جُعِلَ لهم في البرزخ تنور منْ نار ، و أودعت أرواحهم فيه إلى يوم حشر أجسادهم ، كما أراها الله تعالى لنبيه صلى الله عليه و سلم في المنام في الحديث المتفق على صحته 7 .
التاسعة : أنه يفرغ القلب للفكرة في مصالحه و الاشتغال بها ، و إطلاق البصر يُنسيه ذلك ، و يحول بينه و بينه ، فينفرط عليه أمره ، و يقع في اتباع هواه و في الغفلة عن ذكر ربه . قال تعالى : ( وَ لَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَ اتَّبَعَ هَوَاهُ وَ كَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ) - الكهف : 28 ، و إطلاق النظر يُوجب هذه الأمور الثلاثة بحبسه .
العاشرة : أنَّ بين العين و القلب منفذاً و طريقاً يوجب اشتغال أحدهما عن الآخر ، و أنْ يصلح بصلاحه ، و يفسد بفساده ؛ فإذا فسدَ القلبُ فسدَ النظرُ ، و إذا فسدَ النظرُ فسدَ القلبُ ، و كذلك في جانب الصلاح .
فإذا خربتْ العين و فسدتْ خربَ القلبُ و فسدَ و صار كالمزبلة التي هي محل النجاسات و القاذورات و الأوساخ ، فلا يصلح لسكنى معرفة الله و محبته و الإنابة إليه و الأنس به و السرور بقربه ، و إنما يسكن فيه أضداد ذلك .
----------
1- الجَوْس : طلب الشيء باستقصاء ، والتردد والطواف خلال البيوت والدور في الغارة .
2- الحِنْدس : الظلمة ، والليل المظلم .
3- انظر : حلية الأولياء (10/237) .
4- انظر : حلية الأولياء (10/237) .
5- انظر : الحلية (2/149) . والطقطقة : صوت حوافر البغال . والهملجة : الانقياد والذل . والبراذين : الدواب .
6- أخرجه : أبو داود (1425) والترمذي (464) والنسائي (1744) وابن ماجه (1178) من حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما .قال الترمذي : هذا حديث حسن . وصححه أحمد شاكر والألباني .
7- أخرجه : البخاري (7047) ومسلم (2275) من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه .
من كتاب الجواب الكافي لابن القيم رحمه الله