لا .. بل النقاب – وإن رغمت أنوف – فريضة
وليس عادة ولا مجرد فضيلة
أ.د محمد عبد العزيز علي
الأستاذ بجامعة الأزهر الشريف
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله القائل في وصف عباده المؤمنين: (إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون. ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون .. النور/51-52)، والقائل عن الرافضين أوامره وأحكامه من المنافقين: (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً. وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا .. النساء/ 60، 61) .. والصلاة والسلام على من أوحي إليه بقوله: (وما أنزلنا إليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون .. النحل/ 64)، وبعد: فهذه
أولاً: الأدلة الصريحة لوجوب النقاب
1: من المناسب – ونحن نعيش موسم الحج وخير أيام الله على الإطلاق العشر الأوائل من ذي الحجة – أن نبدأ كلامنا عن النقاب بالتذكير بحديث عبد الله بن عمر(1) وفيه يقول صلى الله عليه وسلم عندما سئل عما يلبس المحرم والمحرمة من الثياب: (لا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين)، يعني لكون وجه المرأة ويديها في الإحرام – كما نص على ذلك أهل التحقيق – كبدن الرجل في جواز إظهاره وحرمة ستره بالمُفَصَّل على قدره، وقول من قال من السلف: (إحرام المرأة في وجهها ويديها) إنما أراد به هذا المعنى .. وفي معنى حديث ابن عمر السابق جاء قوله أيضاً وذلك فيما رواه أبو داود والبيهقي والحاكم ورجاله رجال الصحيح: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم في إحرامهن عن القفازين والنقاب) .. ولا يعني وجوب كشفهما عند القيام بركن الإحرام والنهي الصريح عن لبسهما إبَّانِه، سوى أن المرأة في غير الإحرام ملزمة على سبيل الفرض بسترهما كما سيأتي في نص كلام القاضي ابن العربي .. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: \"وهذا مما يدل على أن النقاب والقفازين كان معروفين في النساء اللاتي لم يُحرمن، وذلك يقتضي ستر وجوههن وأيديهن\"[مجموع الفتاوى1 5/ 370، 371].
2: وأن نثنِّي في ذكر أدلة فرضية النقاب بما جاء من تقييد حديث ابن عمر – سالف الذكر – بعدم مرور الرجال الأجانب بحضرة النساء، أو تخصيصه مع ذلك بستر الوجه واليدين بغير المفصَّل على قدرهما من نحو الستر بالكم والملاءة والثوب .. وقد جاء هذا التقييد أو التخصيص في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها(2)، قالت: (كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات، فإذا حاذوْنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزنا – أي ركب الرجال – كشفناه) .. كذا بما يعني فرضيته في غير الحج من باب أولى على ما سيأتي، وكذا بلفظ الجمع (محرمات) وضمير (نا) في: (بنا) (حاذونا) (إحدانا) (جاوزنا) (كشفناه) الدال على اشتهاره وشيوعه بين نساء الصحابة، قال في عون المعبود في قولها (يمرون بها): \"أي علينا معشر النساء\"(3).
3- كما جاء التقييد أو التخصيص فيما أخرجه الحاكم [1/ 454 وقال عنه صحيح على شرط البخاري ومسلم] من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: (كنا نغطي وجوهنا من الرجال، وكنا نمتشط قبل ذلك في الإحرام)، ولاحظ أن أسماء هذه، التي تجتهد هنا في إخفاء وجهها عن الرجال حتى فيما لها في إظهاره وجوباً لأجل الإحرام مندوحة، هي عينُها التي ادُعي عليها ونسب إليها بطريق الكذب وفي غير الإحرام – بل وهي داخلة على رسول الله وعليها ثياب رقاق – حديث: (يا أسماء إذا بلغت المرأة المحيض لم يصلح أن يُرى منها إلا هذا وهذا)، وأشار إلى وجهه وكفيه، فهذا وغيره من الأحاديث غير الصحيحة لا يجوز أن يقال أنها متعارضة مع هذه الأحاديث الصحيحة التي فيها التغليظ الشديد والتحريم الموثق.
4- وجاء التقييد أو التخصيص كذلك في حديث فاطمة بنت المنذر ولفظه: (كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات مع أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، تعني جدتها)(4)، وفيه وفي سابقَيه، دليل دامغ على عموم ذلك للنساء سواء كن في عهد الصحابة أو ما بعده لأن أسماء كانت جدة لفاطمة، ودليل دامغ على أن مواكب المؤمنات إلى بيت الله الحرام كن يغطين وجوههن عن أعين الرجال مع معرفتهن بوجوب إظهاره أثناء الإحرام، ودليل دامغ أيضاً على فرضيته على عمومهن في غير الحج بطريق الأولى .. ذلك أن الواجب – كما قرر علماء الأصول وهو هنا وجوب نزع النقاب والقفازين المفروض على النساء أثناء إحرامهن، باعتبار أن الإحرام ركن الحج الأول بعد النية – لا يُترك إلا لما هو أوجب منه وهو هنا لبسهما إبَّانه عند التعرض للرجال .. فما يكون عليه الحال والحكم إذاً في غير الحج سوى الفرضية والوجوب من باب أولى؟؟!! .. والقول بخلاف ذلك هدم ونقض لنصوص الوحي في هذا الباب كتاباً وسنة – وإهمال وإبطال لما عليه صحابة النبي صلى الله عليه وسلم ذكوراً وإناثاُ – وتعطيل واتهام واستخفاف بعقول وأفهام علماء وأئمة الهدى وعلماء الأمة سلفاً وخلفاً.
وفي بيان ذلك وفي محصلة ما سبق يقول الشافعي: \"ويكون للمرأة إذا كانت بارزة [أي: على قدر من الجمال] تريد الستر من الناس أن ترخي جلبابها أو بعض خمارها أو غير ذلك من ثيابها من فوق رأسها، وتجافيه عن وجهها حتى تغطي وجهها متجافية، كالستر على وجهها)\"[الأم 2/ 162] .. ويقول القاضي أبو بكر ابن العربي المالكي: \"قوله في حديث ابن عمر: (لا تنتقب المرأة المحرمة) وذلك لأن سترها وجهها بالبرقع فرض إلا في الحج، فإنها ترخي شيئاً من خمارها على وجهها غير لاصق به، وتعرض عن الرجال ويعرضون عنها\" [عارضة الأحوذي 4/ 56 المسألة الرابعة عشرة] .. وينقل ابن عابدين الحنفي عن صاحب البحر المحيط قوله: \"ودلت المسألة على أن المرأة منهية عن إظهار وجهها للأجانب بلا ضرورة، لأنها منهية عن تغطيته لحق النسك لولا ذلك، وإلا لم يكن لهذا الإرخاء فائدة\"[رد المحتار على الدر المختار2/ 189].
5- ومن أدلة فرضيته قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي [1173] وابن حبان [329] من حديث ابن مسعود: (المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان)، وبنحوه روى الطبراني عنه [1/ 138]، وزاد: (وإنها أقرب ما تكون من الله وهي في قعر بيتها)، ولا يعني قوله عليه السلام: (المراة عورة) سوى أنه يجب ستر مواضع فتنتها وعلى القمة منها الوجه الذي هو مجمع محاسن المرأة وأعظم ما يفتتن الرجال به ويقع بينهم التنافس في تحصيله إن كان حسناً! وكم أضنى العشق المسبب عن النظر إلى وجوه النساء – وليس إلى أذرعهن ولا أرجلهن التي لا خلاف على وجوب سترها مع أن الفتنة بهما دون الوجه – كثيراً وقتل كثيراً، الأمر الذي يعني أن ستر هذه الوجوه هو الأولى باعتبار أنها أماكن الحسن ومواضع الافتتان، وما عليه التعويل في الحكم على المرأة بالجمال وعكسه .. وتصريح العلماء بأن الوجه والكفين ليسا بعورة إنما كان عند كلامهم على شرط ستر العورة في أبواب (شروط صحة الصلاة).
أ- قال الشافعي في (باب كيف لبس الثياب في الصلاة): \"وكل المرأة عورة إلا كفيها ووجهها)\"، وقال:\"وعلى المرأة أن تغطي في الصلاة كل ما عدا كفيها ووجهها\"[الأم1/ 77]، ونقل عنه الهيتمي في الزواجر أن الوجه والكفين ظهرهما وبطنهما إلى الكوعين عورة في النظر من المرأة ولو أمة على الأصح، وإن كانا ليسا عورة في الصلاة، وهذا ما عليه أصحاب الشافعي، وما نُقل عن بعضهم من حل النظر إلى الوجه والكف إن أمنت الفتنة ليس بمعول عليه عندهم[ينظر روح المعاني 18/ 207، 208]، وقد مر بنا كلامه في تنقب المحرمة إذا حازت الرجال .. وقال موفق الدين ابن قدامة صاحب المغني في (باب صفة الصلاة) 1/ 101: \"قال مالك والأوزاعي والشافعي: جميع المرأة عورة إلا وجهها وكفيها وما سوى ذلك يجب ستره في الصلاة) .. وقال الشهاب: \"وما ذكره – أي البيضاوي – من الفرق بين العورة في الصلاة وغيرها – يعني في وجوب ستر الوجه والكفين في غير الصلاة دونها – مذهب الشافعي رحمه الله\"[عناية القاضي6/ 373].
وبناء على ذلك فقد رجح الغزالي في (الإحياء) أن كشف وجه المرأة للأجنبي حرام، وأن نهي الأجنبية عنه – يعني عن كشفه – واجب، قال الزبيدي: \"قوله لها في تلك الحالة: (لا تكشفي وجهك، أي: استري وجهك) واجب أو مباح أو حرام، لا يخلو من أحد الثلاثة، فإن قلتم: إنه واجب، فهو الغرض المطلوب لأن الكشف معصية والنهي عن المعصية حق\"(5) .. كما نص الإمام النووي على أنه \"يحرم نظر فحل بالغ إلى عورة حرة أجنبية، وكذا إلى وجهها وكفيها عند خوف الفتنة وكذا عند الأمن على الصحيح\"، كذا في المنهاج، ووجهه الإمام باتفاق المسلمين على منع النساء من الخروج سافرات الوجوه، وبأن النظر محرك للشهوة ومظنة للفتنة، وقد قال تعالى: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم .. النور/ 30)، واللائق بمحاسن الشريعة سد باب الذرائع إلى المحرم، والإعراض عن تفاصيل الأحوال أي بشهوة أو بغير شهوة، كما قالوه في الخلوة مع الأجنبية، قال العلامة شمس الدين الرملي الشهير بالشافعي الصغير معلقاً: \"وبه اندفع القول بأنه غير عورة\" [نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج 6/ 187وينظر نيل الأوطار للشوكاني 2/18] .. وما قاله النووي قال به الأصطخري وأبو علي الطبري واختا ره الشيخ أبو محمد، وبه قطع الشيخ أبو إسحاق الشيرازي والروياني وغيرهم.
قال العلامة تقي الدين السبكي: \"إن الأقرب إلى صنع الأصحاب أن وجهها وكفيها عورة في النظر لا في الصلاة\"، بل نص بعضهم على وجوب ستره حتى في الصلاة إذ لم يمكن الاحتراز عن نظر الرجال، وعليه ففي غير الصلاة من باب أولى، يقول الخطيب الشربيني: \"ويكره أن يُصلي في ثوب فيه صورة، وأن يصلي الرجل ملثماً والمرأة منتقبة، إلا أن تكون في مكان وهناك أجانب لا يحترزون عن النظر إليها، فلا يجوز لها رفع النقاب\"(6) .. وفي حواشي الشرواني والعبادي: \"من تحققت من نظر أجنبي لها، يلزمها ستر وجهها عنه، وإلا كانت معينة له على حرام، فتأثم\"[حواشي الشرواني والعبادي6/ 193].
ومحصلة ما ارتآه الشافعية وجوب ستر وجه المرأة وكفيها عدا في الحج وفي الصلاة في حال عدم محاذاة الرجال .. قال الشهاب في شرحه: \"ومذهب الشافعي رحمه الله كما في الروض وغيرها، أن جميع المرأة عورة حتى الوجه والكف مطلقاً\"[عناية القاضي وكفاية الراضي6/ 373] .. وقال البلقيني: \"الفتوى والمذهب على ما جاء في المنهاج من الحرمة مطلقاً .. وهو الراجح\"(7).
ب: رأي الحنابلة: قال أحمد: \"ظفرها عورة، فإذا خرجت فلا تبين شيئاً، ولا خُفيها فإنه يصف القدم، وأحب أن تجعل لكمها زراً عند يديها\"، نقله عنه العلامة ابن مفلح والشيخ يوسف مرعي [ينظر الفروع لابن مفلح1/ 601، 5/ 154 وغاية المنتهى في الجمع بين الإقناع والمنتهى للشيخ يوسف مرعي3/ 7] .. كما نقل العلامة ابن مفلح عن شيح الإسلام ابن تيمية قوله: \"وكشف النساء وجوههن يراهن الأجانب، غير جائز\"[الآداب الشرعية والمنح المرعية1/ 193] .. وقال الإمام ابن قدامة: \"لا يختلف المذهب في أنه يجوز للمرأة كشف وجهها في الصلاة، وأنه ليس لها كشف ما عدا وجهها وكفيها، وفي الكفين روايتان\"[المغني1/ 601، 602]، قال ابن عبد البر: \"إجماع العلماء على أن للمرأة أن تصلي المكتوبة ويداها ووجهها مكشوف ذلك كله منها، وتباشر الأرض به، وأجمعوا على أنها لا تصلي منتقبة ولا عليها أن تلبس قفازين في الصلاة\"(8).
قال منصور بن إدريس البهوتي: \"لا خلاف في المذهب أنه يجوز للمرأة الحرة كشف وجهها في الصلاة، ذكره في المغني وغيره، قال جمع: وكفيها .. وهما – أي الكفان والوجه – من الحرة البالغة عورة خارجها – أي الصلاة – باعتبار النظر كبقية بدنها، لما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: (المرأة عورة)\"[كشف القناع على متن الإقناع1/ 243] .. وقال الشيخ مصطفى السيوطي الرحيباني: \"والحرة البالغة كلها عورة في الصلاة حتى ظفرها وشعرها .. إلا وجهها، لا خلاف في المذهب أنه يجوز للمرأة الحر كشف وجهها في الصلاة، ذكره في (المغني) وغيره\"[مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى للشيخ المرعي الكرمي1/ 330] .. وقال الشيخ عبد القادر بن عمر الشيباني: \"والحرة البالغة كلها عورة في الصلاة حتى ظفرها وشعرها إلا وجهها، والوجه والكفان من الحرة البالغة عورة خارج الصلاة باعتبار النظر كبقية بدنها\"[نيل المآرب بشرح دليل الطالب1/ 39] .. وقال المرداوي: \"وقال بعضهم: (الوجه عورة، وإنما كُشف في الصلاة للحاجة)، قال الشيخ تقي الدين – ابن تيمية –: (والتحقيق أنه ليس بعورة في الصلاة وهو عورة في باب النظر، إذ لم يجز النظر إليه)\"[الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام المبجل أحمد بن حنبل لأبي الحسن المرداوي الحنبلي 1/ 452] .. ويقول ابن قيم الجوزية: \"العورة عورتان: عورة في الصلاة، وعورة في النظر، فالحرة لها أن تصلي مكشوفة الوجه والكفين، وليس لها أن تخرج في الأسواق ومجامع الناس كذلك\"[القياس في الشرع الإسلامي ص 69] .. وقريب من اتجاه ابن تيمية وتلميذه في التوفيق بين هذه الآراء الشاذة، يقول المحقق أبو النجا شرف الدين موسى الحجازي: \"والمرأة البالغة كلها عورة في الصلاة حتى ظفرها وشعرها إلا وجهها، قال جمع: وكفيها، وهما – أي الكفان – والوجه عورة خارجها باعتبار النظر كبقية بدنها[الإقناع1/ 88]، وقال المرداوي أيضاً فيما نقله عن الإمام أحمد: \"كل شيء منها عورة حتى ظفرها\" .. قال:
جـ: \"وهو قول مالك\"[(الصارم المشهور على أهل التبرج والسفور) للتويجري ص 96 و(الرد القوي) له ص 245]، وبعدم جواز إبداء المرأة وجهها وكفيها للأجانب لدى المالكية، صرح ابن المنير فقال: \"إن كل بدن الحرة لا يحل لغير الزوج، والمحرَّم: النظرُ إلى شيء منها إلا لضرورة كالمعالجة وتحمل الشهادة\"[روح المعاني18/ 207 مجلد10] .. وقال القاضي ابن العربي المالكي في (أحكام القرآن)2/ 18: \"والمرأة كلها عورة، بدنها وصوتها، فلا يجوز كشف ذلك إلا لضرورة أو لحاجة كالشهادة أو داء يكون ببدنها\" .. وما ورد عن القاضي عياض بوجوب غض البصر على الرجل واختصاص زوجات النبي صلى الله عليه وسلم بتغطية وجوههن وأكفهن، تعقبه الحافظ ابن حجر بقوله: \"وليس فيما ذكره دليل على ما ادعاه\" [ينظر الفتح8/ 391 وينظر11/ 12] .. ومن ورد عنه من المالكية من غير القاضي عياض خلاف ما اشتهر لديهم وخالف إمام مذهبه، فليس لكون أمر ستر الوجه والكفين عنده على غير الوجوب، وإنما لكون علة تغطيتهما: خوف الفتنة المحققة، لا لكونهما عورة .. يقول الشيخ أحمد الدردير في (أقرب المسالك إلى مذهب مالك): وعورة المرأة مع رجل أجنبي عنها جميع البدن غير الوجه والكفين، وأما هما فليس بعورة، وإن وجب عليها سترهما لخوف الفتنة\"، وعليه فأئمة المذهب على القول بوجوب النقاب أياً ما كانت العلة، وإلا فكيف يستقيم قول بعضهم بحق المحرمة: \"متى أرادت الستر عن أعين الرجال جاز لها ذلك مطلقاً علمت أو ظنت الفتنة بها أم لا، نعم إذا علمت أو ظنت الفتنة بها كان سترها واجباً\"[حاشية الدسوقي على الشرح الكبير1/ 214] .. وقد علمنا أن سترها للوجه والكفين إبان إحرامها دال على الوجوب بطريق الأولى إذ لا يترك واجب وركن الإحرام – بنزع نقابها وقفازيها – إلا لما هو أوجب منه .. وسيأتي المزيد من أقوال أئمة التفسير ممن كانوا من أصحاب هذه المذاهب الثلاثة.
د: والمرجح لدى الحنفية (أصحاب مدرسة الرأي): هو ما عليه جمهرة فقهاء الأمة من وجوب ستر وجه المرأة وكفيها .. وإن اختلفت علة التحريم عند أكثرهم وكانت بالأساس: خوف الفتنة لا لكون ذلك عورة، وإنما قلت: (عند أكثرهم): لأن هناك من أطلقه ولم يقيده بخوف فتنة، وهناك من نص على أن العلة في تغطية وجه المرأة كونه عورة وأن هذا هو المعتمد في المذهب .. وقد مر بنا ما نقله ابن عابدين عن صاحب البحر المحيط، وسيأتي كلام الإمام النسفي أثناء الحديث عن آية الإدناء، وكذا العلامة أبي بكر الجصاص الحنفي، القائل بهذا، وذلك إبان ذكر كلامه في الأدلة الثلاثة الماثلة في قوله تعالى: (يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن)، وقوله: (وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب)، وقوله: (وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى)، وكذا كلام غيرهما من أئمة المذهب.
وهذا هو الجرداني – أحد شيوخ الحنفية – ينص فيما نقله عنه البيانوني في (الفتن) ص197وإسماعيل المقدم في (أدلة الحجاب) ص 463 على أن \"عورة المرأة بالنسبة لنظر الأجنبي إليها جميع بدنها، بدون استثناء شيء منه أصلاً ولو كانت عجوزاً شوهاء، فيحرم على الرجل أن ينظر إلى شيء منها ولو بغير شهوة .. ويجب أن تستر عنه، وهذا هو المعتمد\" .. وسواء أكانت العلة في تغطية وجه وكفي المرأة، كونها عورة أو لخوف الفتنة التي لا يخلو منها زمان أو مكان، فالحكم والنتيجة في النهاية واحدة.
يقول صاحب (فيض الباري على صحيح البخاري): \"وأفتى المتأخرون بسترها – أي الوجه والكفين – لسوء حال الناس\" [فيض الباري للإمام محمد أنور الكشميري 1/254]، وقال العلامة ابن نجيم: \"وفي فتاوى قاضيخان: لا تكشف وجهها للأجانب من غير ضرورة، وهو يدل على أن هذا الإرخاء، عند الإمكان ووجود الأجانب واجب عليها\"، وقال أيضاً: \"قال مشايخنا: تُمنع المرأة الشابة من كشف وجهها بين الرجال في زماننا للفتنة\"[البحر الرائق شرح كنز الدقائق2/ 381، 1/ 283]، وفي المنتقى: \"تمنع الشابة من كشف وجهها لئلا يؤدي إلى الفتنة، وفي زماننا المنع واجب بل فرض لغلبة الفساد\"[نقلاً عن اللباس والزينة في الشريعة الإسلامية ص141] .. وفي الهدية العلائية: \"ويُنظر من الأجنبية ولو كافرة إلى وجهها وكفيها فقط للضرورة .. وتمنع الشابة من كشف وجهها عند خوف الفتنة\"[نقلاً عن (فقه النظر في الإسلام) للشيخ محمد أديب كلكل ص 141]
ولكل عاقل أن يساءل نفسه: إذا كانت الفتنة في زمن الأوائل على هذا النحو، فما يكون عليه الحال إذاً في زماننا؟ .. على أن الضابط في قول الأئمة: (عند خوف الفتنة) \"إنما يعلم في ناظر خاص، وأما بالنظر إلى جماهير الناس الذين تبرز المرأة سافرة أمامهم، فلا يتصور عدم خوف الفتنة منهم جميعاً، فيتحتم المنع من السفور أمامهم على هذا التعليل، وبهذا يظهر مذهب أبي حنيفة وأصحابه في المسألة\"[أدلة الحجاب لإسماعيل المقدم ص464 عن الفتن ص 197].
وعلى ما هو الإجماع – لديهم ولدى سواهم – لا يجوز للمرأة كشف وجهها وكفيها عند عدم أمن الفتنة، وأقوال القائلين بذلك من الأحناف، هي من الشهرة والكثرة بمكان .. والأوجب لدى أبي حنيفة وأصحابه ستر وجه المرأة عند مظنة الخوف من حدوث الفتنة أو كان ذلك لشهوة، فقد روى الحسن عن أبي حنيفة أنه \"يحل النظر إلى مواضع الزينة من المرأة من غير شهوة، وأما عن شهوة فلا، لقوله صلى الله عليه وسلم: (العينان تزنيان) وليس زنا العينين إلا النظر عن شهوة\"، ثم قال: \"والأفضل للشاب غض البصر عن وجه الأجنبية وكذا الشابة، لما فيه من خوف حدوث شهوة والوقوع في الفتنة، ويؤيده المروي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال في قوله تعالى: (إلا ما ظهر منها): أنه الرداء والثياب، فكان غض البصر وترك النظر أزكى وأطهر\"[بدائع الصنائع 5/ 123] .. وقال السرخسي في المبسوط10/ 153: \"وهذا كله – يعني النظر إلى وجه المرأة وكفيها – إذا لم يكن النظر عن شهوة، فإن كان يعلم أنه إن نظر اشتهى لم يحل له النظر إلى شيء منها\" .. وجاء في الدر المختار: \"يُعزِّر المولى عبده والزوج زوجته على تركها الزينة، أو كلمة لتُسمعها أجنبي، أو كشف وجهها ل غير مَحرَم\"[هامش رد المحتار شرح الدر المختار لابن عابدين3/ 261] يريد: أن للسيد معاقبة أيٍّ من أمته أو زوجه إذا تركت إحداهما الزينة له، أو قالت كلمة أرادت أن تسمعها لأجنبي أو كشفت وجهها لغير مَحرَم .. وجاء فيه أيضاً: \"وتُمنع المرأة الشابة من كشف الوجه بين الرجال، لا لأنه عورة بل لخوف الفتنة، كمسِّه وإن أمنت الفتنة، لأنه أغلظ، ولذا ثبتت به حرمة المصاهرة\"، قال ابن عابدين في شرحه عليه: \"المعنى: تمنع من الكشف لخوف أن يرى الرجال وجهها فتقع الفتنة، لآنه مع الكشف قد يقع النظر إليها بشهوة، قوله: (كمسه) أي كما يمنع الرجل من مس وجهها وكفيها وإن أمن الشهوة\"[السابق].
= ومهما يكن من أمر فهناك شبه إجماع على وجوب تغطية وجه المرأة وكفيها لكون هذه الأعضاء عورة يجب سترها عن الأجانب من الرجال .. كما اتفقت مذاهب الفقهاء وجمهور الأئمة على أنه لا يجوز للنساء الشواب كشف الوجوه والأكف بين الأجانب، ويستثنى فيه العجائز لآية: (والقواعد من النساء .. النور/60)، والضرورات مستثناة من الجميع بالإجماع .. واتفقت كذلك على وجوب ستر وجهها وكفيها إذا تغيرت الحالة العامة للمجتمع العفيف ولم يؤمن فيه الفتنة سداً لذرائع الفساد وعوارض الفتن .. ولا أحد يستطيع أن يزعم أن الفتنة مأمونة اليوم، والحال في هذا يغني عن المقال – وعليه فحكم ستر وجه المرأة وكفيها في المذهب الحنفي في مثل أيامنا هو كحكمه في باقي المذاهب الأربعة وهو: وجوب تغطيتهما وحرمة كشفهما لغير ضرورة، وهذا يستلزم في زماننا القول بفرضية النقاب ولاسيما مع ما سبق وسيأتي من ذكر المزيد من نصوص مفسري كلٍّ من هذه المذاهب حتى ولو عند أمن الفتنة.
وما ذكرناه يدفع – من دون شك – ما ظاهره التعارض بين ما ذهب إليه علماء وفقهاء الأمة من أن الوجه ليس بعورة، وبين إفتائهم هم أو أقرانهم من نفس المذهب بوجوب ستره أمام الأجانب، إذ يعنون بكونه ليس بعورة توضيح ذلك في الصلاة التي الإجماع فيها على كشف الوجه إذا لم تكن المرأة بحضرة رجال أجانب، بينا يقصدون بوجوب ستره لكونه عورة: تحريم النظر إلى شيء منه خارج الصلاة، بما يعني أن حدود العورة ليست هي حدود الحجاب .. كما يدفع ما ذكرناه، القولَ بعدم ستر وجه المرأة على إطلاقه، إذ الإجماع على ستره عند عدم أمن الفتنة، والإجماع كذلك على مشروعيته وعدم صحة ما يشغب به البعض من القول بأنه عادة أو مجرد فضيلة، ناهيك عما يصدر ممن يهرف بما لا يعرف فيقول ببدعيته وأحيانا بحرمته وأحياناً بأن ليس ثمة دليل يُستدل به عليه، وإلى الله وحده المشتكى.
6- حديث أم عطية وقد رواه الشيخان، وفيه تقول رضي الله عنها: أمرَنا رسول لله صلى الله عليه وسلم أن نخرجهن في الفطر والأضحى: العواتق[جمع عائق وهي: الشابة أول ما تدرك] والحُيَّض وذوات الخدور، فأما الحيض فيعتزلن الصلاة ويشهدن الخير ودعوة المسلمين، قلت يا رسول الله! إحدانا لا يكون لها جلباب؟ قال: (لتلبسها أختها من جلبابها) .. والمعروف عن الجلباب أنه على ما سيأتي بيانه في تفسير قوله تعالى: (من جلابيبهن .. الأحزاب/ 59) ما غطى جميع الجسد لا بعضه، وأن هذا ما ذكره ابن حزم وصححه القرطبي ومحصلة ما اتفق عليه جمهور أهل العلم، يؤيد ذلك ما حُكي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: \"ما يَمنع المرأة إذا كانت لها حاجة أن تخرج في أطمارها [الأطمار جمع طِمْر وهو: الثوب الخرق]، أو أطمار جارتها مستخفية، لا يَعلم بها أحد حتى ترجع إلى بيتها؟ّ\"، كما يؤيده ما ذكره الشيخ أنور الكشميري في فيض الباري1/ 388 قال: \"والجلباب رداء ساتر من القرن إلى القرن\" .. وكذا ما جاء في (تيسير التفسير) من أن \"الصحيح أنه الثوب الذي يستر جميع البدن، وكل امرأة أعرف بما يستر جسمها ولا تحتاج إلى تعليم في ذلك\"[تيسير التفسير لإبراهيم الشورى ومحمد الشيباوي 8/ 46] .. وعلى جملة هذه الأقوال يُحمل قول الحافظ ابن حجر في الفتح1/ 505: \"وفيه – حديث أم عطية – امتناع خروج المرأة بغير جلباب\" .. وقول البدر العيني في عمدة القارئ 3/ 305: \"ومنها – أي من فوائد الحديث – امتناع خروج النساء بدون الجلاليب\"(9).
7- ومن أدلة فرضية النقاب ما جاء في قصص خطبة رجال الصحابة لنسائهم، من ذلك ما جاء عن المغيرة بن شعبة – وقد أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجة والبيهقي وأحمد وغيرهم – قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له امرأة أخطبها، فقال: (اذهب فانظر إليها فإنه أجدر أن يُؤدَم بينكما)، قال: فأتيت امرأة من الأنصار فخطبتها إلى أبويها، وأخبرتهما بقول النبي صلى الله عليه وسلم فكأنما كرها ذلك، قال: فسمعَت ذلك المرأة وهي في خدرها، فقالت: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرك أن تنظر فانظر وإلا فأنشدك – كأنها أعظمت ذلك – قال: فنظرت إليها فتزوجتها .. ومثله حديث جابر الذي أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي، وفيه: (فخطبت جارية فكنت أتخبأ لها حتى رأيت ما دعاني إلى نكاحها وتزوجتها) .. وحديث محمد بن مسلمة وقد رواه ابن ماجة والطيالسي وأحمد والحاكم، وفيه: (فجعلت أتخبأ لها حتى نظرت إليها في نخل لها)(10).
وبالجملة: ففي هذه الأحاديث دليل على جواز نظر الرجل إلى وجه المرأة والعكس بقصد الخطبة، وعلى ما كان عليه نساء الصحابة من المبالغة في التستر من الرجال الأجانب بحيث لم يكن الرجل منهم يقدر على أن يراهن حتى ولو لسبب شرعي إلا بالحيل أو أن يسمحن له بالرؤية .. ولو كن سافرات الوجوه كاشفات الخدين لما كان الرجال بحاجة إلى تجشم هذه المشقات في رؤيتهن إلى حد أن يكره والدا الفتاة ذلك وأن تعظمه الفتاة نفسها وتتشدد فيه على واحد كالمغيرة .. ورواية جابر: (فكنت أختبئ تحت الكرب حتى رأيت بعض ما دعاني إليها [المحلى11/ 220]) ومثلها رواية ابن مسلمة، دليل على أن النساء لم يكن يتركن الحجاب إلا إذا علمن أنهن في أمن من نظر الرجال، وتلك قاعدة ذهبية في غاية الأهمية يمكن أن يحمل عليها كثير مما ورد من نظر الفجاءة وما يعنيه أمره تعالى بغض البصر.
8- ومن أدلة فرضيته ما رواه أبو داود وعبد الرزاق عن أم سلمة رضي الله عنها قولها: لما نزلت هذه الآية: (يدنين عليهن من جلايببهن .. الأحزاب/ 59) خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من السكينة وعليهن أكسية سود يلبسنها [روح المعاني 22/ 128 مجلد12]، وفى رواية أبي داود وابن مردويه من طريق عائشة: (شققن مروطهن فاعتجرن بها فصلين خلف رسول الله كأنما على رؤوسهن الغربان)[ينظر السابق وفتح القدير للشوكاني4/ 307] .. ولنا أن نتصور تفاصيل ما جرى لنتأمل صدق وقوة إيمان الفضليات من النساء الأول، وذلك فيما رواه ابن أبي حاتم من طريق صفية بنت شيبة، قالت: بينا نحن عند عائشة فذكرنا نساء قريش وفضلهن، فقالت عائشة: إن لنساء قريش لفضلاً، وإني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار أشد تصديقاً لكتاب الله ولا إيماناً بالتنزيل، لما أنزلت سورة النور: (وليضربن بخمرهن على جيوبهن) انقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل الله عليهم فيها، ويتلو الرجل على امرأته وبيته وأخته وعلى كل ذي قرابته، فما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها المرحل فاعتجرت به تصديقاً وإيماناً بما أنزل الله من كتابه، فأصبحن وراء رسول الله صلى الله ع ليه وسلم معتجرات كأن على رؤوسهن الغربان\"[تفسير ابن كثير والآلوسي]، ولا يتأتى تشبيههن بالغربان إلا مع سترهن وجوههن بفضول أكسيتهن، والاعتجار هو الاختمار، قال الحافظ: \"قوله: (فاختمرن) أي: غطين وجوههن\"[فتح الباري8/ 347].
9- ومنها ما كان من النساء المهاجرات، فهن الأخريات كن على نفس هذا المستوى من الإيمان والطاعة لله ورسوله، وفى حقهن أورد البخاري في صحيحه [4758] عن عائشة رضي الله عنها قالت: يرحم الله نساء المهاجرات الأول، لما أنزل الله: (وليضربن بخمرهن على جيوبهن .. النور/ 31) شققن مروطهن فاختمرن بها .. الأمر الذي يدل على أن النقاب كان محل إجماع لدي جميع نساء الصحابة مهاجرات وأنصاريات، وإجماعهن وكذا إجماع رجالهن من الصحابة الذين تلوا عليهن الأمر به، هو في حد ذاته حجة يستلزم وجوب وفرضية ما أجمعوا عليه .. كما يدل على شيوع أمر النقاب هذا بين عامة النساء المؤمنات، وذلك بعد نزول آيتي النور والأحزاب المذكورتين آنفاً، فقد تغير على إثرهما حال النساء المؤمنات الفضليات وأضحى النقاب واجباً متبعاً لعمومهن، من يومها وحتى يوم الناس هذا وإلى يوم القيامة مهما حاربه المحاربون، وحوله من الشبهات أثار المغرضون.
10- وعلى نحو ما فهم الصحابة والصحابيات الأمر في قوله تعالى فيما يعرف بآية الإدناء: (يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهم من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين .. الأحزاب/ 59)، على الوجوب وفرضية النقاب فكانوا وكن نماذج تحتذى في الإيمان والتصديق على نحو ما حكت أم سلمة وعائشة، فقد فهم جل علماء الأمة – سلفاً وخلفاً – منها ذلك، وفهمهم لنصوص الوحي حجة إذ هم الأقرب منه والأعرف بمراده والأدرى باللغة التي نزل بها والآمن على نقله إلينا .. من هؤلاء ابن عباس فقد ورد عنه (11) قوله بعد أن ذكر الآية: أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب ويبدين عيناً واحدة .. ومنهم الفقيه العَلَم عبيدة بن عمرو السلماني (12) قال ابن سيرين: سألت عبيدة عن قوله تعالى .. وذكر الآية، فقال بثوبه فغطى رأسه ووجهه وأبرز ثوبه عن إحدى عينيه، وفي رواية عنه لابن عون: فتقنع بردائه فغطى أنفه وعينه اليسرى وأخرج عينه اليمنى وأدنى رداءه قريباً من حاجبه أو على الحاجب .. وقتادة فقد جاء عنه – ومثله عن ابن عباس – قوله: (تلوي الجلباب فوق الجبين وتشده ثم تع طفه على الأنف وإن ظهرت عيناها لكن تستر الصدر ومعظم الوجه\"[روح المعاني 22/ 128 مجلد12والغريب أن تأتي هذه الرواية والتي قبلها عن ابن عباس وهو الذي أشيع عنه بطريق الخطأ القول بأن معنى (ما ظهر منها) المستثنى في جواز كشفه: الوجه والكفين] .. والسدي، قال: \"تغطي إحدى عينيها وجبهتها والشق الأخر إلا العين\"[البحر المحيط 7/ 250] .. ومنهم أبو بكر أحمد بن علي الجصاص الحنفي ت370 قال: \"في هذه الآية دلالة على أن المرأة الشابة مأمورة بستر وجهها عن الأجنبيين، وإظهار الستر والعفاف عند الخروج لئلا يطمع أهل الريب فيهن\"[أحكام القرآن3/ 458] .. والفقيه عماد الدين بن محمد الطبري المعروف بـ (إلكيا الهراس] ت504 قال في تفسيره الآية 4/ 354: \"الجلباب: هو الرداء، فأمرهن بتغطية وجوههن ورؤوسهن\" .. والإمام محيي السنة أبو الحسين البغوي ت516 الذي اكتفى بقول ابن عباس وعبيدة ولم يلتفت إلى قولٍ آخر كأنه لم يره شيئاً مذكوراً، وكذا فعل (الخازن) .. والزمخشري ت538 قال في الكشاف 3/ 274: \"معنى (يدنين عليهن من جلابيبهن): يرخينها عليهن ويغطين بها وجوههن وأعطافهن، يقال إذا زل الثوب عن وجه المرأة: (أدنِي ثوبكِ على و جهِكِ)، وساق في ذلك كلام عبيدة والسدي والكسائي، وقد نقل عبارته بنصها الإمام عبد الله بن محمد النسفي الحنفي ت701 .. وممن قال بالنقاب ابن الجوزي الحنبلي ت 597 قال في قوله (يدنين عليهن من جلالبيبهن): \"أي تغطين رؤوسهن ووجوههن ليعلم أنهن حرائر) .. والإمام القرطبي المالكي ت671 قال: \"قوله تعالى: (من جلابيبهن)، الجلابيب: جمع جلباب .. والصحيح أنه الثوب الذي يستر جميع البدن\" .. ومنهم الإمام القاضي ناصر الدين البيضاوي الشافعي ت691 قال في تفسيره الآية 2/ 280: \"يغطين وجوههن وأبدانهن بملاحفهن إذا برزن لحاجة\" .. والعلامة محمد بن أحمد بن جزي الكلبي المالكي ت 741 قال: \"وصورة إدنائه عند ابن عباس أن تلويه على وجهها حتى لا يظهر منها إلا عين واحدة تبصر بها\" .. والإمام النحوي المفسر الشهير بأبي حيان ت 745 قال في البحر المحيط 7/ 250: \"والظاهر أن قوله: (ونساء المؤمنين) يشمل الحرائر والإماء، والفتنة بالإماء أكثر لكثرة تصرفهن بخلاف الحرائر، فيحتاج إخراجهن من عموم النساء إلى دليل واضح، و(مِن) في (جلابيبهن) للتبعيض، و(عليهن) شامل لجميع أجسادهن، أو (عليهن): على وجوههن لأن الذي كان يبدو منهن في ا لجاهلية هو الوجه، (ذلك أدنى أن يعرفن) لتسترهن بالعفة فلا يُتعرض لهن، لا يلقين ما يكرهن، لأن المرأة إذا كانت غاية في التستر والانضمام لم يُقدَم عليها بخلاف المتبرجة فإنها مطموع فيها\" .. والإمام الحافظ أبو الفداء المعروف ابن كثير ت 774 وساق في ذلك أثري ابن عباس وعبيدة السلماني وقد مرا .. والإمام جلال الدين أبو عبد الله المحلي ت864 قال في حاشيته على الجلالين ص560: \"أي يرخين بعضها على الوجوه إذا خرجن لحاجتهن إلا عيناً واحدة\" .. والإمام السيوطي، قال: \"هذه آية الحجاب في حق سائر النساء، ففيها وجوب ستر الرأس والوجه عليهن\"[عون المعبود4/ 106 والإكليل على هامش (جامع البيان) ص 334] .. والإمام الخطيب الشربيني، قال في تفسيره (السراج المنير) 3/ 271: \"(يدنين) يقَرِّبن، (عليهن) أي على وجوههن وجميع أبدانهن، فلا يدعن شيئاً منها مكشوفاً\" .. والشيخ أبو السعود ت 951، قال في تفسيره 7/ 115: \"أي يغطين بها وجوههن وأبدانهن إذا برزن لداعية من الدواعي\" .. والشيخ إسماعيل حقي البروسوي ت 1137قال في تفسيره (روح البيان) 7/ 240: \"المعنى: يغطين بها وجوههن وأبدانهن وقت خروجهن من بيوتهن لحاجة، ولا يخرج ن مكشوفات الوجوه والأبدان\" .. والعلامة الشوكاني ت1250 قال4/ 305: \"قال المفسرون: يغطين وجوههن ورؤوسهن إلا عيناً واحدة\" .. والشيخ السيد الميرغني المحجوب المكي ت1268، قال في تفسيره2/ 93: \"أي يرخين على وجوههن وسائر أجسامهن ما يسترهن من الملاءات والثوب الساتر\" .. والآلوسي البغدادي صاحب (روح المعاني) ت1270 وقد سبق ذكر بعض كلامه بالدليل الخامس والسابع .. والشيخ عبد العزيز بن خلف، قال في كتابه (نظرات في حجاب المراة المسلمة) ص 48: \"لو لم يكن من الأدلة الشرعية على منع كشف الوجه إلا هذا النص من الله لكفى به حكماً موجباً، لأن الوجه هو العنوان من المراة من الناحية المحظورة، والله تعالى أمر المرأة بأن تعمل على حجب ما يدل على معرفتها من بدنها، وهذا الأمر يقتضي الوجوب ولا يوجد أي دليل ينقله من الوجوب إلى الاستحباب أو الخيار\"أ.هـ .. والمودودي ت1399 رحمه الله تعالى، فقد قال في كتابه (الحجاب) ص302، 303 بعد أن نقل جملة من أقوال المفسرين – ونقول بقوله –: \"ويتضح من هذه الأقوال جميعاً أنه من لدن عصر الصحابة .. حمل جميع أهل العلم هذه الآية على مفهوم واحد هو ما فهمناه من كلماتها، وإذا رجعنا بعد ذلك إلى الأحاديث النبوية والآثار، علمنا منها أيضاً أن النساء قد شرعن يلبسن النقاب على العموم بعد نزول هذه الآية على العهد النبوي، وكن لا يخرجن سافرات، وكل من تأمل كلمات الآية وما فسرها به أهل لتفسير في جميع الأزمان بالاتفاق وما تعامل عليه الناس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، لم ير في الأمر مجالاً للجحود بأن المرأة قد أمرها الشرع الإسلامي بستر وجهها عن الجانب، مازال العمل جارياً عليه منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا اليوم\"أهـ باختصار .. وغير من ذكرنا كثير يضيق المقام بسرد أقوالهم.
فإن قيل: لا توجد قرينة صريحة ولا واضحة تفصح عن أن المراد من (يدنين عليهن من جلابيبهن) ستر الوجه، ومن أنها دالة في قوله: (ذلك أدنى أن يعرفن) على تغطية الرأس لأن التي تستر وجهها لا تعرف، وبهذا يسقط الاستدلال بالآية، فجوابه: أن بطلان ذلك واضح فإن سياق الآية وصريح قوله: (يدنين عليهن من جلابيبهن) يمنعه تماماً، وبيانه: أن الإشارة في (ذلك أدنى أن يعرفن) ليست راجعة إلى كشف الوجوه بل راجعة إلى إدنائهن عليهن من جلابيبهن، وإدنائهن على هذا النحو المذكور في الآية لا يمكن أن يكون بسفورهن وكشفهن عن وجوههن، وأنى يكون بذلك والوجه عنوان المعرفة، وعليه فالآية نص على وجوب ستر الوجه .. كما أن قوله: (لأزواجك) دليل ثان على أن المعرفة المذكورة في الآية ليست بتغطية الرأس دون الوجه، لأن احتجاب زوجاته صلى الله عليه وسلم بستر وجوههن لا خلاف فيه بين المسلمين، وعليه فيكون الأمر لنساء المؤمنين بستر وجوههن المقترن والمعطوف على ما قبله، إنما هو على الوجوب كذلك .. يضاف لما سبق أن الجلباب الوارد ذكره في الآية إنما هو: ما تضعه المرأة على رأسها لتغطي به وجهها، وهذه هو المفهوم من لغة العرب على ما سبق توضيحه في عب ارة الزمخشري، فكيف يحمل معناه – مع قرينة الإدناء – على غير ذلك .. ثم إن عامة المفسرين من الصحابة فمن بعدهم – على ما رأينا وتلك قرينة رابعة تضاف لما سبق – فسروا الآية مع بيانهم سبب نزولها وهو ألا يطمع فيهن الفساق ومن في قلوبهم مرض وليتميزن عن نساء الجاهلية والإماء غير العفيفات، ومجرد تغطية الرأس لا يمنع من المغازلة بل ويفوت علة نزولها كما يؤدي إلى الطعن فيما أورده من هم أعلم منا بمعاني ما جاء عن الله ورسوله.
= ومما يقضى منه العجب: أن يدعي من يهرف بما لا يعرف أن الأمر في قوله تعالى: (يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهم من جلابيبهن) خاص بزوجات النبي صلى الله عليه وسلم، أو أنه لا يوجد في منطوق الآية ما يدل على النقاب أصلاً، فضلاً عن القول بوجوبه .. وهذا يَرِد عليه أن دعوى الخصوصية في الانتقاب قد أبطلت بقوله: (ونساء المؤمنين)، حيث أشرَكت في الخطاب نساء المؤمنين باللفظ الصريح بإدناء الجلباب .. فضلاً عن أن أحكام القرآن لا تتوقف على أسباب نزول الآي، فهي تخاطب الناس في هذا الزمان كما كانت تخاطب الرسول وأصحابه، وان العبرة –فيما لا يوجد له دليل مخصص – بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وإلا فهل يستطيع عاقل أن يقول أن النهي عن الخضوع بالقول وتبرج الجاهلية والأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الله ورسوله في قول الله تعالى: (يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولاً معروفاً. وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة واطن الله ورسوله .. الأحزاب/ 32، 33) خاص بزوجات النبي وأن غيرهن من نساء المؤ منين غير مطالبات بذلك، فما بالك والحال في إدناء الجلاليب – على ما سبق وعلى ما أفاده قول الله تعالى: (ونساء المؤمنين) – بإبطال دعوى لخصوصية؟.
= أما دعوى أن القول بالنقاب لم يرد ولم ينطق به كتاب الله ومن ثم فليس ثمة وجوب ولا إلزام لنساء المؤمنين به .. فينقضها أن ثمة أقوال وردت في تحديد معنى الجلباب الوارد في قوله تعالى: (جلابيبهن)، أرجحها ما ذهب إليه كثير من المحققين من أنه يعني في لغة العرب التي خاطبنا بها النبي صلى الله عليه وسلم هو: ما غطى جميع الجسد لا بعضه، ذكره ابن حزم في المحلى 3/ 217 وصححه القرطبي في تفسيره 14/ 243 واتفقت عليه عبارات المفسرين على اختلاف ألفاظها، وقوله تعالى: (يدنين) إنما تعني في الأصل: \"التقريب، يقال: أدناني أي قربني، وعدي بـ (على) ليتضمن معنى الإرخاء أو السدل من فوق، ولعل نكتة التضمين: الإشارة إلى أن المطلوب تسترٌ يتأتى معه رؤية الطريق إذا مشين\"[روح المعاني بتصرف]، فالإدناء هنا وعلى ما يقتضيه السياق، شيء زائد على التجلبب، دل عليه فعل عبيدة السلماني وجميع الصحابيات وأقوال سائر الأئمة، ولو كان الأمر على غير ما ذكر – أعني معنى اللف ومجرد ستر الرس – لقال: (يدنين إليهن) ولما اتفق مع قوله: (جلابيبهن) ولا مع أفعال الصحابة وأقوالهم، ولكان كلامه تعالى عبثاً في حق أمهات المؤمنين اللواتي أمرن – من د ون ريب – بتغطية وجوههن، والأمر – على ما هو متضح – لهن ولسائر نساء المؤمنين .. كما ينقض الدعوى السالفة الذكر، إفادة صيغة المضارع: (يدنين) للأمر، فهو خبر في معنى (فليدنين)، (ومعلوم أن الأمر يقتضي الوجوب ما لم يوجد دليل يصرفه إلى معنى آخر – وليس ثمة – وأنه إذا ورد بصيغة المضارع يكون آكد في الدلالة على الوجوب[ينظر حاشية الشهاب وأدلة الحجاب ص 233]، وتغير حال نساء المهاجرين والأنصار الذي ينم عن سرعة الامتثال والاستجابة، وكذا سائر ما مر بنا من أدلة وأقوال خير شاهد على هذا .. يضاف لما ذكر أن ما استدل به ومال إليه القائلون بعدم وجوب النقاب من نحو قول مجاهد في معنى (يدنين): (يتجلببن)، وقول عكرمة: (تغطي ثغرة نحرها بجلبابها تدنيه عليها، وقول سعيد بن جبير: (يسدلن عليهن)، وقول ابن قتيبة: (يلبسن الأردية)[ينظر في هذه الأقوال تفسير ابن كثير5/ 516، والآلوسي 22/ 83 وزاد المسير6/ 422] .. إلى غير ذلك، ليس صريحاً في نفي ستر الوجه بل ولا ينافيه، وما ذلك إلا لأن التجلبب كان له طريقه المعروف في نساء المؤمنين وهو لبسها مع تغطية الوجه، وإلا لأن \"الصحابة والأمة المسلمة التي التزمت نساؤها بستر الوجوه ب عد نزول آيتي النور والأحزاب، وكذلك أكابر الصحابة والتابعين وفطاحل العلم الذين فسروا إدناء الجلباب بستر الوجوه، لا يقدر أحد أن يقول إنهم كانوا يجهلون لغة العرب أو يجهلون أنهم يمتثلون ويفسرون أمراً من أوامر الله، وأن الأمر للوجوب\"[أدلة الحجاب لمحمد إسماعيل المقدم ص 234].
= وثالث هذه الشبهات التي يحتج بها المنكرون للأمر بالنقاب في الآية – محل الاستشهاد – أن علته هي تمييز الحرائر من الإماء وليس ثمة إماء في زماننا فانتفى بذلك المعلول .. ونقول جواباً على ذلك: نعم والأدلة والنصوص شاهدة على ذلك، والآثار بذلك عن عمر صحيحة .. لكن لا ينبغي أن يغيب عنا \"أنه كان بالمدينة إماء يعرفن بالسوء، وربما تعرض لهن السفهاء\"[التسهيل لعلوم التنزيل لابن جزي3/ 144]، وجلبن – بالطبع – القيل والقال على غيرهن من الحرائر .. وأن هذا كان في حق \"إماء الاستخدام والابتذال، وأما إماء التسري اللاتي جرت العادة بصونهن وحجبهن، فأين أباح الله ورسوله لهن أن يكشفن وجوههن في الأسواق والطرقات ومجامع الناس، وأذِنَ للرجال في التمتع بالنظر إليهن؟ فهذا غلط محض على الشريعة، وأكد هذا الغلط أن بعض الفقهاء سمع قولهم: (إن الحرة كلها عورة إلا وجهها وكفيها، وعورة الأمة ما لا يظهر غالباً كالبطن والظهر والساق)، فظن أن ما يظهر غالباً حكمه حكم وجه الرجل، وهذا إنما في الصلاة لا النظر، فإن العورة عورتان: عورة في الصلاة وعورة النظر، فالحرة لها أن تصلي مكشوفة الوجه والكفين، وليس لها أن تخرج في الأسواق و مجامع الناس كذلك\" [القياس في الشرع الإسلامي لابن تيمية وتلميذه ابن القيم ص 69] .. وما تقرر هنا \"من احتجاب الحسان من الإماء وبروز غير الحسان، قد نص عليه الإمام أحمد، فنقل ابن منصور عنه أنه قال: (لا تنتقب الأمة)، ونقل ابن منصور عنه أيضاً وأبو حامد الخَفَّاف أنه قال: (تنتقب الجميلة)\"[الصارم المشهور للتويجري ص 74] .. فبطل بذلك ما احتج به المبطلون، وظل الحكم الشرعي باقياً سواء وجد إماء فأخذن حكم ما ذكرنا أم لم يوجد.
وليس عادة ولا مجرد فضيلة
أ.د محمد عبد العزيز علي
الأستاذ بجامعة الأزهر الشريف
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله القائل في وصف عباده المؤمنين: (إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون. ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون .. النور/51-52)، والقائل عن الرافضين أوامره وأحكامه من المنافقين: (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً. وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا .. النساء/ 60، 61) .. والصلاة والسلام على من أوحي إليه بقوله: (وما أنزلنا إليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون .. النحل/ 64)، وبعد: فهذه
أولاً: الأدلة الصريحة لوجوب النقاب
1: من المناسب – ونحن نعيش موسم الحج وخير أيام الله على الإطلاق العشر الأوائل من ذي الحجة – أن نبدأ كلامنا عن النقاب بالتذكير بحديث عبد الله بن عمر(1) وفيه يقول صلى الله عليه وسلم عندما سئل عما يلبس المحرم والمحرمة من الثياب: (لا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين)، يعني لكون وجه المرأة ويديها في الإحرام – كما نص على ذلك أهل التحقيق – كبدن الرجل في جواز إظهاره وحرمة ستره بالمُفَصَّل على قدره، وقول من قال من السلف: (إحرام المرأة في وجهها ويديها) إنما أراد به هذا المعنى .. وفي معنى حديث ابن عمر السابق جاء قوله أيضاً وذلك فيما رواه أبو داود والبيهقي والحاكم ورجاله رجال الصحيح: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم في إحرامهن عن القفازين والنقاب) .. ولا يعني وجوب كشفهما عند القيام بركن الإحرام والنهي الصريح عن لبسهما إبَّانِه، سوى أن المرأة في غير الإحرام ملزمة على سبيل الفرض بسترهما كما سيأتي في نص كلام القاضي ابن العربي .. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: \"وهذا مما يدل على أن النقاب والقفازين كان معروفين في النساء اللاتي لم يُحرمن، وذلك يقتضي ستر وجوههن وأيديهن\"[مجموع الفتاوى1 5/ 370، 371].
2: وأن نثنِّي في ذكر أدلة فرضية النقاب بما جاء من تقييد حديث ابن عمر – سالف الذكر – بعدم مرور الرجال الأجانب بحضرة النساء، أو تخصيصه مع ذلك بستر الوجه واليدين بغير المفصَّل على قدرهما من نحو الستر بالكم والملاءة والثوب .. وقد جاء هذا التقييد أو التخصيص في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها(2)، قالت: (كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات، فإذا حاذوْنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزنا – أي ركب الرجال – كشفناه) .. كذا بما يعني فرضيته في غير الحج من باب أولى على ما سيأتي، وكذا بلفظ الجمع (محرمات) وضمير (نا) في: (بنا) (حاذونا) (إحدانا) (جاوزنا) (كشفناه) الدال على اشتهاره وشيوعه بين نساء الصحابة، قال في عون المعبود في قولها (يمرون بها): \"أي علينا معشر النساء\"(3).
3- كما جاء التقييد أو التخصيص فيما أخرجه الحاكم [1/ 454 وقال عنه صحيح على شرط البخاري ومسلم] من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: (كنا نغطي وجوهنا من الرجال، وكنا نمتشط قبل ذلك في الإحرام)، ولاحظ أن أسماء هذه، التي تجتهد هنا في إخفاء وجهها عن الرجال حتى فيما لها في إظهاره وجوباً لأجل الإحرام مندوحة، هي عينُها التي ادُعي عليها ونسب إليها بطريق الكذب وفي غير الإحرام – بل وهي داخلة على رسول الله وعليها ثياب رقاق – حديث: (يا أسماء إذا بلغت المرأة المحيض لم يصلح أن يُرى منها إلا هذا وهذا)، وأشار إلى وجهه وكفيه، فهذا وغيره من الأحاديث غير الصحيحة لا يجوز أن يقال أنها متعارضة مع هذه الأحاديث الصحيحة التي فيها التغليظ الشديد والتحريم الموثق.
4- وجاء التقييد أو التخصيص كذلك في حديث فاطمة بنت المنذر ولفظه: (كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات مع أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، تعني جدتها)(4)، وفيه وفي سابقَيه، دليل دامغ على عموم ذلك للنساء سواء كن في عهد الصحابة أو ما بعده لأن أسماء كانت جدة لفاطمة، ودليل دامغ على أن مواكب المؤمنات إلى بيت الله الحرام كن يغطين وجوههن عن أعين الرجال مع معرفتهن بوجوب إظهاره أثناء الإحرام، ودليل دامغ أيضاً على فرضيته على عمومهن في غير الحج بطريق الأولى .. ذلك أن الواجب – كما قرر علماء الأصول وهو هنا وجوب نزع النقاب والقفازين المفروض على النساء أثناء إحرامهن، باعتبار أن الإحرام ركن الحج الأول بعد النية – لا يُترك إلا لما هو أوجب منه وهو هنا لبسهما إبَّانه عند التعرض للرجال .. فما يكون عليه الحال والحكم إذاً في غير الحج سوى الفرضية والوجوب من باب أولى؟؟!! .. والقول بخلاف ذلك هدم ونقض لنصوص الوحي في هذا الباب كتاباً وسنة – وإهمال وإبطال لما عليه صحابة النبي صلى الله عليه وسلم ذكوراً وإناثاُ – وتعطيل واتهام واستخفاف بعقول وأفهام علماء وأئمة الهدى وعلماء الأمة سلفاً وخلفاً.
وفي بيان ذلك وفي محصلة ما سبق يقول الشافعي: \"ويكون للمرأة إذا كانت بارزة [أي: على قدر من الجمال] تريد الستر من الناس أن ترخي جلبابها أو بعض خمارها أو غير ذلك من ثيابها من فوق رأسها، وتجافيه عن وجهها حتى تغطي وجهها متجافية، كالستر على وجهها)\"[الأم 2/ 162] .. ويقول القاضي أبو بكر ابن العربي المالكي: \"قوله في حديث ابن عمر: (لا تنتقب المرأة المحرمة) وذلك لأن سترها وجهها بالبرقع فرض إلا في الحج، فإنها ترخي شيئاً من خمارها على وجهها غير لاصق به، وتعرض عن الرجال ويعرضون عنها\" [عارضة الأحوذي 4/ 56 المسألة الرابعة عشرة] .. وينقل ابن عابدين الحنفي عن صاحب البحر المحيط قوله: \"ودلت المسألة على أن المرأة منهية عن إظهار وجهها للأجانب بلا ضرورة، لأنها منهية عن تغطيته لحق النسك لولا ذلك، وإلا لم يكن لهذا الإرخاء فائدة\"[رد المحتار على الدر المختار2/ 189].
5- ومن أدلة فرضيته قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي [1173] وابن حبان [329] من حديث ابن مسعود: (المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان)، وبنحوه روى الطبراني عنه [1/ 138]، وزاد: (وإنها أقرب ما تكون من الله وهي في قعر بيتها)، ولا يعني قوله عليه السلام: (المراة عورة) سوى أنه يجب ستر مواضع فتنتها وعلى القمة منها الوجه الذي هو مجمع محاسن المرأة وأعظم ما يفتتن الرجال به ويقع بينهم التنافس في تحصيله إن كان حسناً! وكم أضنى العشق المسبب عن النظر إلى وجوه النساء – وليس إلى أذرعهن ولا أرجلهن التي لا خلاف على وجوب سترها مع أن الفتنة بهما دون الوجه – كثيراً وقتل كثيراً، الأمر الذي يعني أن ستر هذه الوجوه هو الأولى باعتبار أنها أماكن الحسن ومواضع الافتتان، وما عليه التعويل في الحكم على المرأة بالجمال وعكسه .. وتصريح العلماء بأن الوجه والكفين ليسا بعورة إنما كان عند كلامهم على شرط ستر العورة في أبواب (شروط صحة الصلاة).
أ- قال الشافعي في (باب كيف لبس الثياب في الصلاة): \"وكل المرأة عورة إلا كفيها ووجهها)\"، وقال:\"وعلى المرأة أن تغطي في الصلاة كل ما عدا كفيها ووجهها\"[الأم1/ 77]، ونقل عنه الهيتمي في الزواجر أن الوجه والكفين ظهرهما وبطنهما إلى الكوعين عورة في النظر من المرأة ولو أمة على الأصح، وإن كانا ليسا عورة في الصلاة، وهذا ما عليه أصحاب الشافعي، وما نُقل عن بعضهم من حل النظر إلى الوجه والكف إن أمنت الفتنة ليس بمعول عليه عندهم[ينظر روح المعاني 18/ 207، 208]، وقد مر بنا كلامه في تنقب المحرمة إذا حازت الرجال .. وقال موفق الدين ابن قدامة صاحب المغني في (باب صفة الصلاة) 1/ 101: \"قال مالك والأوزاعي والشافعي: جميع المرأة عورة إلا وجهها وكفيها وما سوى ذلك يجب ستره في الصلاة) .. وقال الشهاب: \"وما ذكره – أي البيضاوي – من الفرق بين العورة في الصلاة وغيرها – يعني في وجوب ستر الوجه والكفين في غير الصلاة دونها – مذهب الشافعي رحمه الله\"[عناية القاضي6/ 373].
وبناء على ذلك فقد رجح الغزالي في (الإحياء) أن كشف وجه المرأة للأجنبي حرام، وأن نهي الأجنبية عنه – يعني عن كشفه – واجب، قال الزبيدي: \"قوله لها في تلك الحالة: (لا تكشفي وجهك، أي: استري وجهك) واجب أو مباح أو حرام، لا يخلو من أحد الثلاثة، فإن قلتم: إنه واجب، فهو الغرض المطلوب لأن الكشف معصية والنهي عن المعصية حق\"(5) .. كما نص الإمام النووي على أنه \"يحرم نظر فحل بالغ إلى عورة حرة أجنبية، وكذا إلى وجهها وكفيها عند خوف الفتنة وكذا عند الأمن على الصحيح\"، كذا في المنهاج، ووجهه الإمام باتفاق المسلمين على منع النساء من الخروج سافرات الوجوه، وبأن النظر محرك للشهوة ومظنة للفتنة، وقد قال تعالى: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم .. النور/ 30)، واللائق بمحاسن الشريعة سد باب الذرائع إلى المحرم، والإعراض عن تفاصيل الأحوال أي بشهوة أو بغير شهوة، كما قالوه في الخلوة مع الأجنبية، قال العلامة شمس الدين الرملي الشهير بالشافعي الصغير معلقاً: \"وبه اندفع القول بأنه غير عورة\" [نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج 6/ 187وينظر نيل الأوطار للشوكاني 2/18] .. وما قاله النووي قال به الأصطخري وأبو علي الطبري واختا ره الشيخ أبو محمد، وبه قطع الشيخ أبو إسحاق الشيرازي والروياني وغيرهم.
قال العلامة تقي الدين السبكي: \"إن الأقرب إلى صنع الأصحاب أن وجهها وكفيها عورة في النظر لا في الصلاة\"، بل نص بعضهم على وجوب ستره حتى في الصلاة إذ لم يمكن الاحتراز عن نظر الرجال، وعليه ففي غير الصلاة من باب أولى، يقول الخطيب الشربيني: \"ويكره أن يُصلي في ثوب فيه صورة، وأن يصلي الرجل ملثماً والمرأة منتقبة، إلا أن تكون في مكان وهناك أجانب لا يحترزون عن النظر إليها، فلا يجوز لها رفع النقاب\"(6) .. وفي حواشي الشرواني والعبادي: \"من تحققت من نظر أجنبي لها، يلزمها ستر وجهها عنه، وإلا كانت معينة له على حرام، فتأثم\"[حواشي الشرواني والعبادي6/ 193].
ومحصلة ما ارتآه الشافعية وجوب ستر وجه المرأة وكفيها عدا في الحج وفي الصلاة في حال عدم محاذاة الرجال .. قال الشهاب في شرحه: \"ومذهب الشافعي رحمه الله كما في الروض وغيرها، أن جميع المرأة عورة حتى الوجه والكف مطلقاً\"[عناية القاضي وكفاية الراضي6/ 373] .. وقال البلقيني: \"الفتوى والمذهب على ما جاء في المنهاج من الحرمة مطلقاً .. وهو الراجح\"(7).
ب: رأي الحنابلة: قال أحمد: \"ظفرها عورة، فإذا خرجت فلا تبين شيئاً، ولا خُفيها فإنه يصف القدم، وأحب أن تجعل لكمها زراً عند يديها\"، نقله عنه العلامة ابن مفلح والشيخ يوسف مرعي [ينظر الفروع لابن مفلح1/ 601، 5/ 154 وغاية المنتهى في الجمع بين الإقناع والمنتهى للشيخ يوسف مرعي3/ 7] .. كما نقل العلامة ابن مفلح عن شيح الإسلام ابن تيمية قوله: \"وكشف النساء وجوههن يراهن الأجانب، غير جائز\"[الآداب الشرعية والمنح المرعية1/ 193] .. وقال الإمام ابن قدامة: \"لا يختلف المذهب في أنه يجوز للمرأة كشف وجهها في الصلاة، وأنه ليس لها كشف ما عدا وجهها وكفيها، وفي الكفين روايتان\"[المغني1/ 601، 602]، قال ابن عبد البر: \"إجماع العلماء على أن للمرأة أن تصلي المكتوبة ويداها ووجهها مكشوف ذلك كله منها، وتباشر الأرض به، وأجمعوا على أنها لا تصلي منتقبة ولا عليها أن تلبس قفازين في الصلاة\"(8).
قال منصور بن إدريس البهوتي: \"لا خلاف في المذهب أنه يجوز للمرأة الحرة كشف وجهها في الصلاة، ذكره في المغني وغيره، قال جمع: وكفيها .. وهما – أي الكفان والوجه – من الحرة البالغة عورة خارجها – أي الصلاة – باعتبار النظر كبقية بدنها، لما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: (المرأة عورة)\"[كشف القناع على متن الإقناع1/ 243] .. وقال الشيخ مصطفى السيوطي الرحيباني: \"والحرة البالغة كلها عورة في الصلاة حتى ظفرها وشعرها .. إلا وجهها، لا خلاف في المذهب أنه يجوز للمرأة الحر كشف وجهها في الصلاة، ذكره في (المغني) وغيره\"[مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى للشيخ المرعي الكرمي1/ 330] .. وقال الشيخ عبد القادر بن عمر الشيباني: \"والحرة البالغة كلها عورة في الصلاة حتى ظفرها وشعرها إلا وجهها، والوجه والكفان من الحرة البالغة عورة خارج الصلاة باعتبار النظر كبقية بدنها\"[نيل المآرب بشرح دليل الطالب1/ 39] .. وقال المرداوي: \"وقال بعضهم: (الوجه عورة، وإنما كُشف في الصلاة للحاجة)، قال الشيخ تقي الدين – ابن تيمية –: (والتحقيق أنه ليس بعورة في الصلاة وهو عورة في باب النظر، إذ لم يجز النظر إليه)\"[الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام المبجل أحمد بن حنبل لأبي الحسن المرداوي الحنبلي 1/ 452] .. ويقول ابن قيم الجوزية: \"العورة عورتان: عورة في الصلاة، وعورة في النظر، فالحرة لها أن تصلي مكشوفة الوجه والكفين، وليس لها أن تخرج في الأسواق ومجامع الناس كذلك\"[القياس في الشرع الإسلامي ص 69] .. وقريب من اتجاه ابن تيمية وتلميذه في التوفيق بين هذه الآراء الشاذة، يقول المحقق أبو النجا شرف الدين موسى الحجازي: \"والمرأة البالغة كلها عورة في الصلاة حتى ظفرها وشعرها إلا وجهها، قال جمع: وكفيها، وهما – أي الكفان – والوجه عورة خارجها باعتبار النظر كبقية بدنها[الإقناع1/ 88]، وقال المرداوي أيضاً فيما نقله عن الإمام أحمد: \"كل شيء منها عورة حتى ظفرها\" .. قال:
جـ: \"وهو قول مالك\"[(الصارم المشهور على أهل التبرج والسفور) للتويجري ص 96 و(الرد القوي) له ص 245]، وبعدم جواز إبداء المرأة وجهها وكفيها للأجانب لدى المالكية، صرح ابن المنير فقال: \"إن كل بدن الحرة لا يحل لغير الزوج، والمحرَّم: النظرُ إلى شيء منها إلا لضرورة كالمعالجة وتحمل الشهادة\"[روح المعاني18/ 207 مجلد10] .. وقال القاضي ابن العربي المالكي في (أحكام القرآن)2/ 18: \"والمرأة كلها عورة، بدنها وصوتها، فلا يجوز كشف ذلك إلا لضرورة أو لحاجة كالشهادة أو داء يكون ببدنها\" .. وما ورد عن القاضي عياض بوجوب غض البصر على الرجل واختصاص زوجات النبي صلى الله عليه وسلم بتغطية وجوههن وأكفهن، تعقبه الحافظ ابن حجر بقوله: \"وليس فيما ذكره دليل على ما ادعاه\" [ينظر الفتح8/ 391 وينظر11/ 12] .. ومن ورد عنه من المالكية من غير القاضي عياض خلاف ما اشتهر لديهم وخالف إمام مذهبه، فليس لكون أمر ستر الوجه والكفين عنده على غير الوجوب، وإنما لكون علة تغطيتهما: خوف الفتنة المحققة، لا لكونهما عورة .. يقول الشيخ أحمد الدردير في (أقرب المسالك إلى مذهب مالك): وعورة المرأة مع رجل أجنبي عنها جميع البدن غير الوجه والكفين، وأما هما فليس بعورة، وإن وجب عليها سترهما لخوف الفتنة\"، وعليه فأئمة المذهب على القول بوجوب النقاب أياً ما كانت العلة، وإلا فكيف يستقيم قول بعضهم بحق المحرمة: \"متى أرادت الستر عن أعين الرجال جاز لها ذلك مطلقاً علمت أو ظنت الفتنة بها أم لا، نعم إذا علمت أو ظنت الفتنة بها كان سترها واجباً\"[حاشية الدسوقي على الشرح الكبير1/ 214] .. وقد علمنا أن سترها للوجه والكفين إبان إحرامها دال على الوجوب بطريق الأولى إذ لا يترك واجب وركن الإحرام – بنزع نقابها وقفازيها – إلا لما هو أوجب منه .. وسيأتي المزيد من أقوال أئمة التفسير ممن كانوا من أصحاب هذه المذاهب الثلاثة.
د: والمرجح لدى الحنفية (أصحاب مدرسة الرأي): هو ما عليه جمهرة فقهاء الأمة من وجوب ستر وجه المرأة وكفيها .. وإن اختلفت علة التحريم عند أكثرهم وكانت بالأساس: خوف الفتنة لا لكون ذلك عورة، وإنما قلت: (عند أكثرهم): لأن هناك من أطلقه ولم يقيده بخوف فتنة، وهناك من نص على أن العلة في تغطية وجه المرأة كونه عورة وأن هذا هو المعتمد في المذهب .. وقد مر بنا ما نقله ابن عابدين عن صاحب البحر المحيط، وسيأتي كلام الإمام النسفي أثناء الحديث عن آية الإدناء، وكذا العلامة أبي بكر الجصاص الحنفي، القائل بهذا، وذلك إبان ذكر كلامه في الأدلة الثلاثة الماثلة في قوله تعالى: (يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن)، وقوله: (وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب)، وقوله: (وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى)، وكذا كلام غيرهما من أئمة المذهب.
وهذا هو الجرداني – أحد شيوخ الحنفية – ينص فيما نقله عنه البيانوني في (الفتن) ص197وإسماعيل المقدم في (أدلة الحجاب) ص 463 على أن \"عورة المرأة بالنسبة لنظر الأجنبي إليها جميع بدنها، بدون استثناء شيء منه أصلاً ولو كانت عجوزاً شوهاء، فيحرم على الرجل أن ينظر إلى شيء منها ولو بغير شهوة .. ويجب أن تستر عنه، وهذا هو المعتمد\" .. وسواء أكانت العلة في تغطية وجه وكفي المرأة، كونها عورة أو لخوف الفتنة التي لا يخلو منها زمان أو مكان، فالحكم والنتيجة في النهاية واحدة.
يقول صاحب (فيض الباري على صحيح البخاري): \"وأفتى المتأخرون بسترها – أي الوجه والكفين – لسوء حال الناس\" [فيض الباري للإمام محمد أنور الكشميري 1/254]، وقال العلامة ابن نجيم: \"وفي فتاوى قاضيخان: لا تكشف وجهها للأجانب من غير ضرورة، وهو يدل على أن هذا الإرخاء، عند الإمكان ووجود الأجانب واجب عليها\"، وقال أيضاً: \"قال مشايخنا: تُمنع المرأة الشابة من كشف وجهها بين الرجال في زماننا للفتنة\"[البحر الرائق شرح كنز الدقائق2/ 381، 1/ 283]، وفي المنتقى: \"تمنع الشابة من كشف وجهها لئلا يؤدي إلى الفتنة، وفي زماننا المنع واجب بل فرض لغلبة الفساد\"[نقلاً عن اللباس والزينة في الشريعة الإسلامية ص141] .. وفي الهدية العلائية: \"ويُنظر من الأجنبية ولو كافرة إلى وجهها وكفيها فقط للضرورة .. وتمنع الشابة من كشف وجهها عند خوف الفتنة\"[نقلاً عن (فقه النظر في الإسلام) للشيخ محمد أديب كلكل ص 141]
ولكل عاقل أن يساءل نفسه: إذا كانت الفتنة في زمن الأوائل على هذا النحو، فما يكون عليه الحال إذاً في زماننا؟ .. على أن الضابط في قول الأئمة: (عند خوف الفتنة) \"إنما يعلم في ناظر خاص، وأما بالنظر إلى جماهير الناس الذين تبرز المرأة سافرة أمامهم، فلا يتصور عدم خوف الفتنة منهم جميعاً، فيتحتم المنع من السفور أمامهم على هذا التعليل، وبهذا يظهر مذهب أبي حنيفة وأصحابه في المسألة\"[أدلة الحجاب لإسماعيل المقدم ص464 عن الفتن ص 197].
وعلى ما هو الإجماع – لديهم ولدى سواهم – لا يجوز للمرأة كشف وجهها وكفيها عند عدم أمن الفتنة، وأقوال القائلين بذلك من الأحناف، هي من الشهرة والكثرة بمكان .. والأوجب لدى أبي حنيفة وأصحابه ستر وجه المرأة عند مظنة الخوف من حدوث الفتنة أو كان ذلك لشهوة، فقد روى الحسن عن أبي حنيفة أنه \"يحل النظر إلى مواضع الزينة من المرأة من غير شهوة، وأما عن شهوة فلا، لقوله صلى الله عليه وسلم: (العينان تزنيان) وليس زنا العينين إلا النظر عن شهوة\"، ثم قال: \"والأفضل للشاب غض البصر عن وجه الأجنبية وكذا الشابة، لما فيه من خوف حدوث شهوة والوقوع في الفتنة، ويؤيده المروي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال في قوله تعالى: (إلا ما ظهر منها): أنه الرداء والثياب، فكان غض البصر وترك النظر أزكى وأطهر\"[بدائع الصنائع 5/ 123] .. وقال السرخسي في المبسوط10/ 153: \"وهذا كله – يعني النظر إلى وجه المرأة وكفيها – إذا لم يكن النظر عن شهوة، فإن كان يعلم أنه إن نظر اشتهى لم يحل له النظر إلى شيء منها\" .. وجاء في الدر المختار: \"يُعزِّر المولى عبده والزوج زوجته على تركها الزينة، أو كلمة لتُسمعها أجنبي، أو كشف وجهها ل غير مَحرَم\"[هامش رد المحتار شرح الدر المختار لابن عابدين3/ 261] يريد: أن للسيد معاقبة أيٍّ من أمته أو زوجه إذا تركت إحداهما الزينة له، أو قالت كلمة أرادت أن تسمعها لأجنبي أو كشفت وجهها لغير مَحرَم .. وجاء فيه أيضاً: \"وتُمنع المرأة الشابة من كشف الوجه بين الرجال، لا لأنه عورة بل لخوف الفتنة، كمسِّه وإن أمنت الفتنة، لأنه أغلظ، ولذا ثبتت به حرمة المصاهرة\"، قال ابن عابدين في شرحه عليه: \"المعنى: تمنع من الكشف لخوف أن يرى الرجال وجهها فتقع الفتنة، لآنه مع الكشف قد يقع النظر إليها بشهوة، قوله: (كمسه) أي كما يمنع الرجل من مس وجهها وكفيها وإن أمن الشهوة\"[السابق].
= ومهما يكن من أمر فهناك شبه إجماع على وجوب تغطية وجه المرأة وكفيها لكون هذه الأعضاء عورة يجب سترها عن الأجانب من الرجال .. كما اتفقت مذاهب الفقهاء وجمهور الأئمة على أنه لا يجوز للنساء الشواب كشف الوجوه والأكف بين الأجانب، ويستثنى فيه العجائز لآية: (والقواعد من النساء .. النور/60)، والضرورات مستثناة من الجميع بالإجماع .. واتفقت كذلك على وجوب ستر وجهها وكفيها إذا تغيرت الحالة العامة للمجتمع العفيف ولم يؤمن فيه الفتنة سداً لذرائع الفساد وعوارض الفتن .. ولا أحد يستطيع أن يزعم أن الفتنة مأمونة اليوم، والحال في هذا يغني عن المقال – وعليه فحكم ستر وجه المرأة وكفيها في المذهب الحنفي في مثل أيامنا هو كحكمه في باقي المذاهب الأربعة وهو: وجوب تغطيتهما وحرمة كشفهما لغير ضرورة، وهذا يستلزم في زماننا القول بفرضية النقاب ولاسيما مع ما سبق وسيأتي من ذكر المزيد من نصوص مفسري كلٍّ من هذه المذاهب حتى ولو عند أمن الفتنة.
وما ذكرناه يدفع – من دون شك – ما ظاهره التعارض بين ما ذهب إليه علماء وفقهاء الأمة من أن الوجه ليس بعورة، وبين إفتائهم هم أو أقرانهم من نفس المذهب بوجوب ستره أمام الأجانب، إذ يعنون بكونه ليس بعورة توضيح ذلك في الصلاة التي الإجماع فيها على كشف الوجه إذا لم تكن المرأة بحضرة رجال أجانب، بينا يقصدون بوجوب ستره لكونه عورة: تحريم النظر إلى شيء منه خارج الصلاة، بما يعني أن حدود العورة ليست هي حدود الحجاب .. كما يدفع ما ذكرناه، القولَ بعدم ستر وجه المرأة على إطلاقه، إذ الإجماع على ستره عند عدم أمن الفتنة، والإجماع كذلك على مشروعيته وعدم صحة ما يشغب به البعض من القول بأنه عادة أو مجرد فضيلة، ناهيك عما يصدر ممن يهرف بما لا يعرف فيقول ببدعيته وأحيانا بحرمته وأحياناً بأن ليس ثمة دليل يُستدل به عليه، وإلى الله وحده المشتكى.
6- حديث أم عطية وقد رواه الشيخان، وفيه تقول رضي الله عنها: أمرَنا رسول لله صلى الله عليه وسلم أن نخرجهن في الفطر والأضحى: العواتق[جمع عائق وهي: الشابة أول ما تدرك] والحُيَّض وذوات الخدور، فأما الحيض فيعتزلن الصلاة ويشهدن الخير ودعوة المسلمين، قلت يا رسول الله! إحدانا لا يكون لها جلباب؟ قال: (لتلبسها أختها من جلبابها) .. والمعروف عن الجلباب أنه على ما سيأتي بيانه في تفسير قوله تعالى: (من جلابيبهن .. الأحزاب/ 59) ما غطى جميع الجسد لا بعضه، وأن هذا ما ذكره ابن حزم وصححه القرطبي ومحصلة ما اتفق عليه جمهور أهل العلم، يؤيد ذلك ما حُكي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: \"ما يَمنع المرأة إذا كانت لها حاجة أن تخرج في أطمارها [الأطمار جمع طِمْر وهو: الثوب الخرق]، أو أطمار جارتها مستخفية، لا يَعلم بها أحد حتى ترجع إلى بيتها؟ّ\"، كما يؤيده ما ذكره الشيخ أنور الكشميري في فيض الباري1/ 388 قال: \"والجلباب رداء ساتر من القرن إلى القرن\" .. وكذا ما جاء في (تيسير التفسير) من أن \"الصحيح أنه الثوب الذي يستر جميع البدن، وكل امرأة أعرف بما يستر جسمها ولا تحتاج إلى تعليم في ذلك\"[تيسير التفسير لإبراهيم الشورى ومحمد الشيباوي 8/ 46] .. وعلى جملة هذه الأقوال يُحمل قول الحافظ ابن حجر في الفتح1/ 505: \"وفيه – حديث أم عطية – امتناع خروج المرأة بغير جلباب\" .. وقول البدر العيني في عمدة القارئ 3/ 305: \"ومنها – أي من فوائد الحديث – امتناع خروج النساء بدون الجلاليب\"(9).
7- ومن أدلة فرضية النقاب ما جاء في قصص خطبة رجال الصحابة لنسائهم، من ذلك ما جاء عن المغيرة بن شعبة – وقد أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجة والبيهقي وأحمد وغيرهم – قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له امرأة أخطبها، فقال: (اذهب فانظر إليها فإنه أجدر أن يُؤدَم بينكما)، قال: فأتيت امرأة من الأنصار فخطبتها إلى أبويها، وأخبرتهما بقول النبي صلى الله عليه وسلم فكأنما كرها ذلك، قال: فسمعَت ذلك المرأة وهي في خدرها، فقالت: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرك أن تنظر فانظر وإلا فأنشدك – كأنها أعظمت ذلك – قال: فنظرت إليها فتزوجتها .. ومثله حديث جابر الذي أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي، وفيه: (فخطبت جارية فكنت أتخبأ لها حتى رأيت ما دعاني إلى نكاحها وتزوجتها) .. وحديث محمد بن مسلمة وقد رواه ابن ماجة والطيالسي وأحمد والحاكم، وفيه: (فجعلت أتخبأ لها حتى نظرت إليها في نخل لها)(10).
وبالجملة: ففي هذه الأحاديث دليل على جواز نظر الرجل إلى وجه المرأة والعكس بقصد الخطبة، وعلى ما كان عليه نساء الصحابة من المبالغة في التستر من الرجال الأجانب بحيث لم يكن الرجل منهم يقدر على أن يراهن حتى ولو لسبب شرعي إلا بالحيل أو أن يسمحن له بالرؤية .. ولو كن سافرات الوجوه كاشفات الخدين لما كان الرجال بحاجة إلى تجشم هذه المشقات في رؤيتهن إلى حد أن يكره والدا الفتاة ذلك وأن تعظمه الفتاة نفسها وتتشدد فيه على واحد كالمغيرة .. ورواية جابر: (فكنت أختبئ تحت الكرب حتى رأيت بعض ما دعاني إليها [المحلى11/ 220]) ومثلها رواية ابن مسلمة، دليل على أن النساء لم يكن يتركن الحجاب إلا إذا علمن أنهن في أمن من نظر الرجال، وتلك قاعدة ذهبية في غاية الأهمية يمكن أن يحمل عليها كثير مما ورد من نظر الفجاءة وما يعنيه أمره تعالى بغض البصر.
8- ومن أدلة فرضيته ما رواه أبو داود وعبد الرزاق عن أم سلمة رضي الله عنها قولها: لما نزلت هذه الآية: (يدنين عليهن من جلايببهن .. الأحزاب/ 59) خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من السكينة وعليهن أكسية سود يلبسنها [روح المعاني 22/ 128 مجلد12]، وفى رواية أبي داود وابن مردويه من طريق عائشة: (شققن مروطهن فاعتجرن بها فصلين خلف رسول الله كأنما على رؤوسهن الغربان)[ينظر السابق وفتح القدير للشوكاني4/ 307] .. ولنا أن نتصور تفاصيل ما جرى لنتأمل صدق وقوة إيمان الفضليات من النساء الأول، وذلك فيما رواه ابن أبي حاتم من طريق صفية بنت شيبة، قالت: بينا نحن عند عائشة فذكرنا نساء قريش وفضلهن، فقالت عائشة: إن لنساء قريش لفضلاً، وإني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار أشد تصديقاً لكتاب الله ولا إيماناً بالتنزيل، لما أنزلت سورة النور: (وليضربن بخمرهن على جيوبهن) انقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل الله عليهم فيها، ويتلو الرجل على امرأته وبيته وأخته وعلى كل ذي قرابته، فما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها المرحل فاعتجرت به تصديقاً وإيماناً بما أنزل الله من كتابه، فأصبحن وراء رسول الله صلى الله ع ليه وسلم معتجرات كأن على رؤوسهن الغربان\"[تفسير ابن كثير والآلوسي]، ولا يتأتى تشبيههن بالغربان إلا مع سترهن وجوههن بفضول أكسيتهن، والاعتجار هو الاختمار، قال الحافظ: \"قوله: (فاختمرن) أي: غطين وجوههن\"[فتح الباري8/ 347].
9- ومنها ما كان من النساء المهاجرات، فهن الأخريات كن على نفس هذا المستوى من الإيمان والطاعة لله ورسوله، وفى حقهن أورد البخاري في صحيحه [4758] عن عائشة رضي الله عنها قالت: يرحم الله نساء المهاجرات الأول، لما أنزل الله: (وليضربن بخمرهن على جيوبهن .. النور/ 31) شققن مروطهن فاختمرن بها .. الأمر الذي يدل على أن النقاب كان محل إجماع لدي جميع نساء الصحابة مهاجرات وأنصاريات، وإجماعهن وكذا إجماع رجالهن من الصحابة الذين تلوا عليهن الأمر به، هو في حد ذاته حجة يستلزم وجوب وفرضية ما أجمعوا عليه .. كما يدل على شيوع أمر النقاب هذا بين عامة النساء المؤمنات، وذلك بعد نزول آيتي النور والأحزاب المذكورتين آنفاً، فقد تغير على إثرهما حال النساء المؤمنات الفضليات وأضحى النقاب واجباً متبعاً لعمومهن، من يومها وحتى يوم الناس هذا وإلى يوم القيامة مهما حاربه المحاربون، وحوله من الشبهات أثار المغرضون.
10- وعلى نحو ما فهم الصحابة والصحابيات الأمر في قوله تعالى فيما يعرف بآية الإدناء: (يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهم من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين .. الأحزاب/ 59)، على الوجوب وفرضية النقاب فكانوا وكن نماذج تحتذى في الإيمان والتصديق على نحو ما حكت أم سلمة وعائشة، فقد فهم جل علماء الأمة – سلفاً وخلفاً – منها ذلك، وفهمهم لنصوص الوحي حجة إذ هم الأقرب منه والأعرف بمراده والأدرى باللغة التي نزل بها والآمن على نقله إلينا .. من هؤلاء ابن عباس فقد ورد عنه (11) قوله بعد أن ذكر الآية: أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب ويبدين عيناً واحدة .. ومنهم الفقيه العَلَم عبيدة بن عمرو السلماني (12) قال ابن سيرين: سألت عبيدة عن قوله تعالى .. وذكر الآية، فقال بثوبه فغطى رأسه ووجهه وأبرز ثوبه عن إحدى عينيه، وفي رواية عنه لابن عون: فتقنع بردائه فغطى أنفه وعينه اليسرى وأخرج عينه اليمنى وأدنى رداءه قريباً من حاجبه أو على الحاجب .. وقتادة فقد جاء عنه – ومثله عن ابن عباس – قوله: (تلوي الجلباب فوق الجبين وتشده ثم تع طفه على الأنف وإن ظهرت عيناها لكن تستر الصدر ومعظم الوجه\"[روح المعاني 22/ 128 مجلد12والغريب أن تأتي هذه الرواية والتي قبلها عن ابن عباس وهو الذي أشيع عنه بطريق الخطأ القول بأن معنى (ما ظهر منها) المستثنى في جواز كشفه: الوجه والكفين] .. والسدي، قال: \"تغطي إحدى عينيها وجبهتها والشق الأخر إلا العين\"[البحر المحيط 7/ 250] .. ومنهم أبو بكر أحمد بن علي الجصاص الحنفي ت370 قال: \"في هذه الآية دلالة على أن المرأة الشابة مأمورة بستر وجهها عن الأجنبيين، وإظهار الستر والعفاف عند الخروج لئلا يطمع أهل الريب فيهن\"[أحكام القرآن3/ 458] .. والفقيه عماد الدين بن محمد الطبري المعروف بـ (إلكيا الهراس] ت504 قال في تفسيره الآية 4/ 354: \"الجلباب: هو الرداء، فأمرهن بتغطية وجوههن ورؤوسهن\" .. والإمام محيي السنة أبو الحسين البغوي ت516 الذي اكتفى بقول ابن عباس وعبيدة ولم يلتفت إلى قولٍ آخر كأنه لم يره شيئاً مذكوراً، وكذا فعل (الخازن) .. والزمخشري ت538 قال في الكشاف 3/ 274: \"معنى (يدنين عليهن من جلابيبهن): يرخينها عليهن ويغطين بها وجوههن وأعطافهن، يقال إذا زل الثوب عن وجه المرأة: (أدنِي ثوبكِ على و جهِكِ)، وساق في ذلك كلام عبيدة والسدي والكسائي، وقد نقل عبارته بنصها الإمام عبد الله بن محمد النسفي الحنفي ت701 .. وممن قال بالنقاب ابن الجوزي الحنبلي ت 597 قال في قوله (يدنين عليهن من جلالبيبهن): \"أي تغطين رؤوسهن ووجوههن ليعلم أنهن حرائر) .. والإمام القرطبي المالكي ت671 قال: \"قوله تعالى: (من جلابيبهن)، الجلابيب: جمع جلباب .. والصحيح أنه الثوب الذي يستر جميع البدن\" .. ومنهم الإمام القاضي ناصر الدين البيضاوي الشافعي ت691 قال في تفسيره الآية 2/ 280: \"يغطين وجوههن وأبدانهن بملاحفهن إذا برزن لحاجة\" .. والعلامة محمد بن أحمد بن جزي الكلبي المالكي ت 741 قال: \"وصورة إدنائه عند ابن عباس أن تلويه على وجهها حتى لا يظهر منها إلا عين واحدة تبصر بها\" .. والإمام النحوي المفسر الشهير بأبي حيان ت 745 قال في البحر المحيط 7/ 250: \"والظاهر أن قوله: (ونساء المؤمنين) يشمل الحرائر والإماء، والفتنة بالإماء أكثر لكثرة تصرفهن بخلاف الحرائر، فيحتاج إخراجهن من عموم النساء إلى دليل واضح، و(مِن) في (جلابيبهن) للتبعيض، و(عليهن) شامل لجميع أجسادهن، أو (عليهن): على وجوههن لأن الذي كان يبدو منهن في ا لجاهلية هو الوجه، (ذلك أدنى أن يعرفن) لتسترهن بالعفة فلا يُتعرض لهن، لا يلقين ما يكرهن، لأن المرأة إذا كانت غاية في التستر والانضمام لم يُقدَم عليها بخلاف المتبرجة فإنها مطموع فيها\" .. والإمام الحافظ أبو الفداء المعروف ابن كثير ت 774 وساق في ذلك أثري ابن عباس وعبيدة السلماني وقد مرا .. والإمام جلال الدين أبو عبد الله المحلي ت864 قال في حاشيته على الجلالين ص560: \"أي يرخين بعضها على الوجوه إذا خرجن لحاجتهن إلا عيناً واحدة\" .. والإمام السيوطي، قال: \"هذه آية الحجاب في حق سائر النساء، ففيها وجوب ستر الرأس والوجه عليهن\"[عون المعبود4/ 106 والإكليل على هامش (جامع البيان) ص 334] .. والإمام الخطيب الشربيني، قال في تفسيره (السراج المنير) 3/ 271: \"(يدنين) يقَرِّبن، (عليهن) أي على وجوههن وجميع أبدانهن، فلا يدعن شيئاً منها مكشوفاً\" .. والشيخ أبو السعود ت 951، قال في تفسيره 7/ 115: \"أي يغطين بها وجوههن وأبدانهن إذا برزن لداعية من الدواعي\" .. والشيخ إسماعيل حقي البروسوي ت 1137قال في تفسيره (روح البيان) 7/ 240: \"المعنى: يغطين بها وجوههن وأبدانهن وقت خروجهن من بيوتهن لحاجة، ولا يخرج ن مكشوفات الوجوه والأبدان\" .. والعلامة الشوكاني ت1250 قال4/ 305: \"قال المفسرون: يغطين وجوههن ورؤوسهن إلا عيناً واحدة\" .. والشيخ السيد الميرغني المحجوب المكي ت1268، قال في تفسيره2/ 93: \"أي يرخين على وجوههن وسائر أجسامهن ما يسترهن من الملاءات والثوب الساتر\" .. والآلوسي البغدادي صاحب (روح المعاني) ت1270 وقد سبق ذكر بعض كلامه بالدليل الخامس والسابع .. والشيخ عبد العزيز بن خلف، قال في كتابه (نظرات في حجاب المراة المسلمة) ص 48: \"لو لم يكن من الأدلة الشرعية على منع كشف الوجه إلا هذا النص من الله لكفى به حكماً موجباً، لأن الوجه هو العنوان من المراة من الناحية المحظورة، والله تعالى أمر المرأة بأن تعمل على حجب ما يدل على معرفتها من بدنها، وهذا الأمر يقتضي الوجوب ولا يوجد أي دليل ينقله من الوجوب إلى الاستحباب أو الخيار\"أ.هـ .. والمودودي ت1399 رحمه الله تعالى، فقد قال في كتابه (الحجاب) ص302، 303 بعد أن نقل جملة من أقوال المفسرين – ونقول بقوله –: \"ويتضح من هذه الأقوال جميعاً أنه من لدن عصر الصحابة .. حمل جميع أهل العلم هذه الآية على مفهوم واحد هو ما فهمناه من كلماتها، وإذا رجعنا بعد ذلك إلى الأحاديث النبوية والآثار، علمنا منها أيضاً أن النساء قد شرعن يلبسن النقاب على العموم بعد نزول هذه الآية على العهد النبوي، وكن لا يخرجن سافرات، وكل من تأمل كلمات الآية وما فسرها به أهل لتفسير في جميع الأزمان بالاتفاق وما تعامل عليه الناس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، لم ير في الأمر مجالاً للجحود بأن المرأة قد أمرها الشرع الإسلامي بستر وجهها عن الجانب، مازال العمل جارياً عليه منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا اليوم\"أهـ باختصار .. وغير من ذكرنا كثير يضيق المقام بسرد أقوالهم.
فإن قيل: لا توجد قرينة صريحة ولا واضحة تفصح عن أن المراد من (يدنين عليهن من جلابيبهن) ستر الوجه، ومن أنها دالة في قوله: (ذلك أدنى أن يعرفن) على تغطية الرأس لأن التي تستر وجهها لا تعرف، وبهذا يسقط الاستدلال بالآية، فجوابه: أن بطلان ذلك واضح فإن سياق الآية وصريح قوله: (يدنين عليهن من جلابيبهن) يمنعه تماماً، وبيانه: أن الإشارة في (ذلك أدنى أن يعرفن) ليست راجعة إلى كشف الوجوه بل راجعة إلى إدنائهن عليهن من جلابيبهن، وإدنائهن على هذا النحو المذكور في الآية لا يمكن أن يكون بسفورهن وكشفهن عن وجوههن، وأنى يكون بذلك والوجه عنوان المعرفة، وعليه فالآية نص على وجوب ستر الوجه .. كما أن قوله: (لأزواجك) دليل ثان على أن المعرفة المذكورة في الآية ليست بتغطية الرأس دون الوجه، لأن احتجاب زوجاته صلى الله عليه وسلم بستر وجوههن لا خلاف فيه بين المسلمين، وعليه فيكون الأمر لنساء المؤمنين بستر وجوههن المقترن والمعطوف على ما قبله، إنما هو على الوجوب كذلك .. يضاف لما سبق أن الجلباب الوارد ذكره في الآية إنما هو: ما تضعه المرأة على رأسها لتغطي به وجهها، وهذه هو المفهوم من لغة العرب على ما سبق توضيحه في عب ارة الزمخشري، فكيف يحمل معناه – مع قرينة الإدناء – على غير ذلك .. ثم إن عامة المفسرين من الصحابة فمن بعدهم – على ما رأينا وتلك قرينة رابعة تضاف لما سبق – فسروا الآية مع بيانهم سبب نزولها وهو ألا يطمع فيهن الفساق ومن في قلوبهم مرض وليتميزن عن نساء الجاهلية والإماء غير العفيفات، ومجرد تغطية الرأس لا يمنع من المغازلة بل ويفوت علة نزولها كما يؤدي إلى الطعن فيما أورده من هم أعلم منا بمعاني ما جاء عن الله ورسوله.
= ومما يقضى منه العجب: أن يدعي من يهرف بما لا يعرف أن الأمر في قوله تعالى: (يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهم من جلابيبهن) خاص بزوجات النبي صلى الله عليه وسلم، أو أنه لا يوجد في منطوق الآية ما يدل على النقاب أصلاً، فضلاً عن القول بوجوبه .. وهذا يَرِد عليه أن دعوى الخصوصية في الانتقاب قد أبطلت بقوله: (ونساء المؤمنين)، حيث أشرَكت في الخطاب نساء المؤمنين باللفظ الصريح بإدناء الجلباب .. فضلاً عن أن أحكام القرآن لا تتوقف على أسباب نزول الآي، فهي تخاطب الناس في هذا الزمان كما كانت تخاطب الرسول وأصحابه، وان العبرة –فيما لا يوجد له دليل مخصص – بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وإلا فهل يستطيع عاقل أن يقول أن النهي عن الخضوع بالقول وتبرج الجاهلية والأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الله ورسوله في قول الله تعالى: (يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولاً معروفاً. وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة واطن الله ورسوله .. الأحزاب/ 32، 33) خاص بزوجات النبي وأن غيرهن من نساء المؤ منين غير مطالبات بذلك، فما بالك والحال في إدناء الجلاليب – على ما سبق وعلى ما أفاده قول الله تعالى: (ونساء المؤمنين) – بإبطال دعوى لخصوصية؟.
= أما دعوى أن القول بالنقاب لم يرد ولم ينطق به كتاب الله ومن ثم فليس ثمة وجوب ولا إلزام لنساء المؤمنين به .. فينقضها أن ثمة أقوال وردت في تحديد معنى الجلباب الوارد في قوله تعالى: (جلابيبهن)، أرجحها ما ذهب إليه كثير من المحققين من أنه يعني في لغة العرب التي خاطبنا بها النبي صلى الله عليه وسلم هو: ما غطى جميع الجسد لا بعضه، ذكره ابن حزم في المحلى 3/ 217 وصححه القرطبي في تفسيره 14/ 243 واتفقت عليه عبارات المفسرين على اختلاف ألفاظها، وقوله تعالى: (يدنين) إنما تعني في الأصل: \"التقريب، يقال: أدناني أي قربني، وعدي بـ (على) ليتضمن معنى الإرخاء أو السدل من فوق، ولعل نكتة التضمين: الإشارة إلى أن المطلوب تسترٌ يتأتى معه رؤية الطريق إذا مشين\"[روح المعاني بتصرف]، فالإدناء هنا وعلى ما يقتضيه السياق، شيء زائد على التجلبب، دل عليه فعل عبيدة السلماني وجميع الصحابيات وأقوال سائر الأئمة، ولو كان الأمر على غير ما ذكر – أعني معنى اللف ومجرد ستر الرس – لقال: (يدنين إليهن) ولما اتفق مع قوله: (جلابيبهن) ولا مع أفعال الصحابة وأقوالهم، ولكان كلامه تعالى عبثاً في حق أمهات المؤمنين اللواتي أمرن – من د ون ريب – بتغطية وجوههن، والأمر – على ما هو متضح – لهن ولسائر نساء المؤمنين .. كما ينقض الدعوى السالفة الذكر، إفادة صيغة المضارع: (يدنين) للأمر، فهو خبر في معنى (فليدنين)، (ومعلوم أن الأمر يقتضي الوجوب ما لم يوجد دليل يصرفه إلى معنى آخر – وليس ثمة – وأنه إذا ورد بصيغة المضارع يكون آكد في الدلالة على الوجوب[ينظر حاشية الشهاب وأدلة الحجاب ص 233]، وتغير حال نساء المهاجرين والأنصار الذي ينم عن سرعة الامتثال والاستجابة، وكذا سائر ما مر بنا من أدلة وأقوال خير شاهد على هذا .. يضاف لما ذكر أن ما استدل به ومال إليه القائلون بعدم وجوب النقاب من نحو قول مجاهد في معنى (يدنين): (يتجلببن)، وقول عكرمة: (تغطي ثغرة نحرها بجلبابها تدنيه عليها، وقول سعيد بن جبير: (يسدلن عليهن)، وقول ابن قتيبة: (يلبسن الأردية)[ينظر في هذه الأقوال تفسير ابن كثير5/ 516، والآلوسي 22/ 83 وزاد المسير6/ 422] .. إلى غير ذلك، ليس صريحاً في نفي ستر الوجه بل ولا ينافيه، وما ذلك إلا لأن التجلبب كان له طريقه المعروف في نساء المؤمنين وهو لبسها مع تغطية الوجه، وإلا لأن \"الصحابة والأمة المسلمة التي التزمت نساؤها بستر الوجوه ب عد نزول آيتي النور والأحزاب، وكذلك أكابر الصحابة والتابعين وفطاحل العلم الذين فسروا إدناء الجلباب بستر الوجوه، لا يقدر أحد أن يقول إنهم كانوا يجهلون لغة العرب أو يجهلون أنهم يمتثلون ويفسرون أمراً من أوامر الله، وأن الأمر للوجوب\"[أدلة الحجاب لمحمد إسماعيل المقدم ص 234].
= وثالث هذه الشبهات التي يحتج بها المنكرون للأمر بالنقاب في الآية – محل الاستشهاد – أن علته هي تمييز الحرائر من الإماء وليس ثمة إماء في زماننا فانتفى بذلك المعلول .. ونقول جواباً على ذلك: نعم والأدلة والنصوص شاهدة على ذلك، والآثار بذلك عن عمر صحيحة .. لكن لا ينبغي أن يغيب عنا \"أنه كان بالمدينة إماء يعرفن بالسوء، وربما تعرض لهن السفهاء\"[التسهيل لعلوم التنزيل لابن جزي3/ 144]، وجلبن – بالطبع – القيل والقال على غيرهن من الحرائر .. وأن هذا كان في حق \"إماء الاستخدام والابتذال، وأما إماء التسري اللاتي جرت العادة بصونهن وحجبهن، فأين أباح الله ورسوله لهن أن يكشفن وجوههن في الأسواق والطرقات ومجامع الناس، وأذِنَ للرجال في التمتع بالنظر إليهن؟ فهذا غلط محض على الشريعة، وأكد هذا الغلط أن بعض الفقهاء سمع قولهم: (إن الحرة كلها عورة إلا وجهها وكفيها، وعورة الأمة ما لا يظهر غالباً كالبطن والظهر والساق)، فظن أن ما يظهر غالباً حكمه حكم وجه الرجل، وهذا إنما في الصلاة لا النظر، فإن العورة عورتان: عورة في الصلاة وعورة النظر، فالحرة لها أن تصلي مكشوفة الوجه والكفين، وليس لها أن تخرج في الأسواق و مجامع الناس كذلك\" [القياس في الشرع الإسلامي لابن تيمية وتلميذه ابن القيم ص 69] .. وما تقرر هنا \"من احتجاب الحسان من الإماء وبروز غير الحسان، قد نص عليه الإمام أحمد، فنقل ابن منصور عنه أنه قال: (لا تنتقب الأمة)، ونقل ابن منصور عنه أيضاً وأبو حامد الخَفَّاف أنه قال: (تنتقب الجميلة)\"[الصارم المشهور للتويجري ص 74] .. فبطل بذلك ما احتج به المبطلون، وظل الحكم الشرعي باقياً سواء وجد إماء فأخذن حكم ما ذكرنا أم لم يوجد.