السبائك الذهبية في آداب البحث والمناظرة العلمية لأبي جهاد سمير الجزائري أحمد الله تبارك وتعالى ، وأصلي وأسلم على رسوله وخيرته من خلقه ، ومصطفاه من رسله سيدنا محمد رسول الله ، بعثه بالحق بشيراً ونذيراً ، فبلغ الرسالة ، وأَدّى الأمانة ، ونصح الأمة ، وجعلنا على المحجة البيضاء ، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك ، صلى الله وسلم وبارك عليه ، وعلى آله الطيبين الطاهرين ، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين وعلى أصحابه أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد : هذه كلمات في أدب الحوار لخصتها من كتاب"أصول الحواروآدابه" سائلاً المولى العلي القدير التسديد والقبول .. مقدمة: الغاية من الحوار إقامةُ الحجة ، ودفعُ الشبهة والفاسد من القول والرأي يقول الحافظ الذهبي : ( إنما وضعت المناظرة لكشف الحقِّ ، وإفادةِ العالِم الأذكى العلمَ لمن دونه ، وتنبيهِ الأغفلَ الأضعفَ ). وقوع الخلاف بين الناس : الخلاف واقع بين الناس في مختلف الأعصار والأمصار ، وهو سنَّة الله في خلقه ، فهم مختلفون في ألوانهم وألسنتهم وطباعهم ومُدركاتهم ومعارفهم وعقولهم ، وكل ذلك آية من آيات الله ، نبَّه عليه القرآن الكريم في قوله تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ } (الروم:22) وضوح الحق وجلاؤه : وعلى الرغم من حقيقة وجود هذا التَّبايُن بين الناس ؛ في عقولهم ومُدركاتهم وقابليتهم للاختلاف ، إلا أن الله وضع على الحقِّ معالمَ ، وجعل على الصراط المستقيم منائرَ .. وعليه حُمِلَ الاستثناء في الآية في قوله : { إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ } (هود:119) . وهو المنصوص عليه في الآية الأخرى في قوله : { فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ } (البقرة:213) . وذلك أن النفوس إذا تجرَّدت من أهوائها ، وجدَّت في تَلَمُّس الحقِّ فإنها مَهْديَّةٌ إليه ؛ بل إنّ في فطرتها ما يهديها ، وتأمَّل ذلك في قوله تعالى : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } (الروم:30) . ومنه الحديث النبوي : (( ما من مولود إلا يُولدُ على الفِطْرة ، فأبواه يُهوّدانه ، ويُنَصِّرانه ، ويُمجِّسانه ، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء ، هل تُحِسّون فيها من جَدْعاء حتى أنتم تجدعونها ؟ )) . مواطن الاتفاق : إنّ بِدْءَ الحديث والحوار بمواطن الاتفاق طريق إلى كسب الثقة وفُشُوِّ روح التفاهم . ويصير به الحوار هادئاً وهادفاً . وتقريرها يفتح آفاقاً من التلاقي والقبول والإقبال ، مما يقلّل الجفوة ويردم الهُوَّة ويجعل فرص الوفاق والنجاح أفضل وأقرب ، كما يجعل احتمالات التنازع أقل وأبعد . ومما قاله بعض المُتمرّسين في هذا الشأن : دَعْ صاحبك في الطرف الآخر يوافق ويجيب بـ ( نعم ) ، وحِلْ ما استطعت بينه وبين ( لا ) ؛ لأن كلمة ( لا ) عقبة كؤود يصعب اقتحامها وتجاوزها ، فمتى قال صاحبك : ( لا ) ؛ أوجَبَتْ عليه كبرياؤه أن يظلّ مناصراً لنفسه . ويُعين على هذا المسلك ويقود إليه ؛ إشعارك مُحدثَّك بمشاركتك له في بعض قناعاته ؛ والتصريح بالإعجاب بأفكاره الصحيحة وأدلته الجيدة ومعلوماته المفيدة ، وإعلان الرضا والتسليم بها . وهذا كما سبق يفتح القلوب ويُقارب الآراء ، وتسود معه روح الموضوعية والتجرد . وقد قال علماؤنا : إن أكثر الجهل إنما يقع في النفي ؛ الذي هو الجحود والتكذيب ؛ لا في الإثبات ، لأن إحاطة الإنسان بما يُثْبتُه أيسر من إحاطته بما ينفيه ؛ لذا فإن أكثر الخلاف الذي يُورث الهوى نابع ؛ من أن كل واحد من المختلفين مصيب فيما يُثْبته أو في بعضه ، مخطيء في نفي ما عليه الآخر. أصول الحوار : الأصل الأول : سلوك الطرق العلمية والتزامها ومن هذه الطرق : 1- تقديم الأدلة المُثبِتة أو المرجِّحة للدعوى . 2- صحة تقديم النقل في الأمور المنقولة . وفي هذين الطريقين جاءت القاعدة الحوارية المشهورة : ( إن كنت ناقلاً فالصحة ، وإن كنت مدَّعيّاً فالدليل ) . الأصل الثاني : سلامة كلامِ المناظر ودليله من التناقض ؛ فالمتناقض ساقط بداهة . الأصل الثالث : …ألا يكون الدليل هو عين الدعوى ، لأنه إذا كان كذلك لم يكن دليلاً ، ولكنه اعادة للدعوى بألفاظ وصيغ أخرى . وعند بعض المُحاورين من البراعة في تزويق الألفاظ وزخرفتها ما يوهم بأنه يُورد دليلاً . وواقع الحال أنه إعادة للدعوى بلفظ مُغاير ، وهذا تحايل في أصول لإطالة النقاش من غير فائدة . الأصل الرابع : الاتفاق على منطلقات ثابتة وقضايا مُسَلَّمة . وهذه المُسَلَّمات والثوابت قد يكون مرجعها ؛ أنها عقلية بحتة لا تقبل النقاش عند العقلاء المتجردين ؛ كحُسْنِ الصدق ، وقُبحِ الكذب ، وشُكر المُحسن ، ومعاقبة المُذنب . أو تكون مُسَلَّمات دينية لا يختلف عليها المعتنقون لهذه الديانة أو تلك . وبالوقوف عند الثوابت والمُسَلَّمات ، والانطلاق منها يتحدد مُريد الحق ممن لا يريد إلا المراء والجدل والسفسطة . الأصل الخامس : التجرُّد ، وقصد الحق ، والبعد عن التعصب ، والالتزام بآداب الحوار . ومن مقولات الإمام الشافعي المحفوظة : ( ما كلمت أحداً قطّ إلا أحببت أن يُوفّق ويُسدّد ويُعان ، وتكون عليه رعاية الله وحفظه . وما ناظرني فبالَيْتُ ! أَظَهَرَتِ الحجّةُ على لسانه أو لساني ) . الأصل السادس : أهلية المحاور : إذا كان من الحق ألا يمنع صاحب الحق عن حقه ، فمن الحق ألا يعطى هذا الحق لمن لا يستحقه ، كما أن من الحكمة والعقل والأدب في الرجل ألا يعترض على ما ليس له أهلاً ، ولا يدخل فيما ليس هو فيه كفؤاً . إذن ، فليس كل أحد مؤهلاً للدخول في حوار صحي صحيح يؤتي ثماراً يانعة ونتائج طيبة . والذي يجمع لك كل ذلك : ( العلم ) ؛ فلا بد من التأهيل العلمي للمُحاور ، ويقصد بذلك التأهيل العلمي المختص . إن الجاهل بالشيء ليس كفؤاً للعالم به ، ومن لا يعلم لا يجوز أن يجادل من يعلم ، وقد قرر هذه الحقيقة إبراهيم عليه السلام في محاجَّته لأبيه حين قال :{ يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً}(مريم:43). وكثير من الحوارات غير المنتجة مردُّها إلى عدم التكافؤ بين المتحاورين ، ولقد قال الشافعي رحمه الله : ( ما جادلت عالماً إلا وغلبته ، وما جادلني جاهل إلا غلبني ! ) . وهذا التهكم من الشافعي رحمه الله يشير إلى الجدال العقيم ؛ الذي يجري بين غير المتكافئين . الأصل السابع : قطعية النتائج ونسبيَّتها : من المهم في هذا الأصل المقولة المشهورة ( رأيي صواب يحتمل الخطأ ، ورأي الآخر خطأ يحتمل الصواب ) . وبناء عليه ؛ فليس من شروط الحوار الناجح أن ينتهي أحد الطرفين إلى قول الطرف الآخر . فإن تحقق هذا واتفقنا على رأي واحد فنعم المقصود ، وهو منتهى الغاية . وإن لم يكن فالحوار ناجح . إذا توصل المتحاوران بقناعة إلى قبول كلٍ من منهجيهما ؛ يسوغ لكل واحد منهما التمسك به ما دام أنه في دائرة الخلاف السائغ . وما تقدم من حديث عن غاية الحوار يزيد هذا الأصل إيضاحاً . وفي تقرير ذلك يقول ابن تيمية رحمه الله : ( وكان بعضهم يعذر كل من خالفه في مسائل الاجتهادية ، ولا يكلفه أن يوافقه فهمه ) ا هـ . من المغني . ولكن يكون الحوار فاشلاً إذا انتهى إلى نزاع وقطيعة ، وتدابر ومكايدة وتجهيل وتخطئة . الأصل الثامن : الرضا والقبول بالنتائج التي يتوصل إليها المتحاورون ، والالتزام الجادّ بها ، وبما يترتب عليها . وإذا لم يتحقق هذا الأصل كانت المناظرة ضرباً من العبث الذي يتنزه عنه العقلاء . يقول ابن عقيل : ( وليقبل كل واحد منهما من صاحبه الحجة ؛ فإنه أنبل لقدره ، وأعون على إدراك الحق وسلوك سبيل الصدق . قال الشافعي رضي الله عنه : ما ناظرت أحداً فقبل مني الحجَّة إلا عظم في عيني ، ولا ردَّها إلا سقط في عيني ) ( 8 ) . آداب الحوار : 1- التزام القول الحسن ، وتجنب منهج التحدي والإفحام : فحق العاقل اللبيب طالب الحق ، أن ينأى بنفسه عن أسلوب الطعن والتجريح والهزء والسخرية ، وألوان الاحتقار والإثارة والاستفزاز . فإن كسب القلوب مقدم على كسب المواقف . على أن الإنسان قد يحتاج إلى التغيير من نبرات صوته حسب استدعاء المقام ونوع الأسلوب ، لينسجم الصوت مع المقام والأسلوب ، استفهامياً كان ، أو تقريرياً أو إنكارياً أو تعجبياً ، أو غير ذلك . مما يدفع الملل والسآمة ، ويُعين على إيصال الفكرة ، ويجدد التنبيه لدى المشاركين والمتابعين . على أن هناك بعض الحالات الاستثنائية التي يسوغ فيها اللجوء إلى الإفحام وإسكات الطرف الآخر ؛ وذلك فيما إذا استطال وتجاوز الحد ، وطغى وظلم وعادى الحق ، وكابر مكابرة بيِّنة ، وفي مثل هذا جاءت الآية الكريمة : { وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ } (العنكبوت: 46) . وقبل مغادرة هذه الفقرة من الأدب ، لا بد من الاشارة إلى ما ينبغي من العبد من استخدام ضمير المتكلم أفراداً أو جمعاً ؛ فلا يقول : فعلتُ وقلتُ ، وفي رأيي ، ودَرَسْنا ، وفي تجربتنا ؛ فهذا ثقيل في نفوس المتابعين ، وهو عنوان على الإعجاب بالنفس ، وقد يؤثر على الإخلاص وحسن القصد ، والناس تشمئز من المتعالم المتعالي ، ومن اللائق أن يبدلها بضمير الغيبة فيقول : يبدوا للدارس ، وتدل تجارب العاملين ، ويقول المختصون ، وفي رأي أهل الشأن ، ونحو ذلك . وأخيرا فمن غاية الأدب واللباقة في القول وإدارة الحوار ألا يَفْتَرِضَ في صاحبه الذكاء المفرط ، فيكلمه بعبارات مختزلة ، وإشارات بعيدة ، ومن ثم فلا يفهم . كما لا يفترض فيه الغباء والسذاجة ، أو الجهل المطبق ؛ فيبالغ في شرح مالا يحتاج إلى شرح وتبسيط مالا يحتاج إلى بسط . 2- الالتزام بوقت محدد في الكلام : ينبغي أن يستقر في ذهن المُحاور ألا يستأثر بالكلام ، ويستطيل في الحديث ، ويسترسل بما يخرج به عن حدود اللباقة والأدب والذوق الرفيع . يقول ابن عقيل في كتابه فن الجدل : ( وليتناوبا الكلام مناوبة لا مناهبة ، بحيث ينصت المعترض للمُستَدِلّ حتى يفرغ من تقريره للدليل ، ثم المُستدِلُّ للمعترض حتى يُقرر اعتراضه ، ولا يقطع أحد منها على الآخر كلامه وإن فهم مقصوده من بعضه ) . ومن الخير للمتحدث أن يُنهي حديثه والناس متشوفة للمتابعة ، مستمتعة بالفائدة . هذا خير له من أن تنتظر الناس انتهاءه وقفل حديثه ، فالله المستعان . 3- حسن الاستماع وأدب الإنصات وتجنب المقاطعة وإنّ من الخطأ أن تحصر همَّك في التفكير فيما ستقوله ، ولا تُلقي بالاً لمُحدثك ومُحاورك ، وقد قال الحسن بن علي لابنه ، رضي الله عنهم أجمعين : ( يا بنيّ إذا جالست العلماء ؛ فكن على أن تسمع أحرص منك على أن تقول ، وتعلًم حُسْنَ الاستماع كما تتعلم حسن الكلام ، ولا تقطع على أحد حديثاً - وإن طال - حتى يُمسك ) . 4- تقدير الخصم واحترامه : ينبغي في مجلس الحوار التأكد على الاحترام المتبادل من الأطراف ، وإعطاء كل ذي حق حقه ، والاعتراف بمنزلته ومقامه ، فيخاطب بالعبارات اللائقة ، والألقاب المستحقة ، والأساليب المهذبة . 5- حصر المناظرات في مكان محدود : يذكر أهل العلم أن المُحاورات والجدل ينبغي أن يكون في خلوات محدودة الحضور ؛ قالوا : وذلك أجمع للفكر والفهم ، وأقرب لصفاء الذهن ، وأسلم لحسن القصد ، وإن في حضور الجمع الغفير ما يحرك دواعي الرياء ، والحرص على الغلبة بالحق أو بالباطل . 6 - الإخلاص : هذه الخصلة من الأدب متمِّمة لما ذكر من أصل التجرد في طلب الحق ، فعلى المُحاور ان يوطِّن نفسه ، ويُروِّضها على الإخلاص لله في كل ما يأتي وما يذر في ميدان الحوار وحلبته . وسوف يكون فحص النفس دقيقاً وناجحاً لو أن المُحاور توجه لنفسه بهذه الأسئلة : - هل ثمَّت مصلحة ظاهرة تُرجى من هذا النقاش وهذه المشاركة . ؟ - هل يقصد تحقيق الشهوة أو اشباع الشهوة في الحديث والمشاركة . ؟ - وهل يتوخَّى أن يتمخض هذا الحوار والجدل عن نزاع وفتنة ، وفتح أبواب من هذه الألوان حقهَّا أن تسدّ .؟ إن من الخطأ البيِّن في هذا الباب أن تظن أنّ الحق لا يغار عليه إلا أنت ، ولا يحبه إلا أنت ، ولا يدافع عنه إلا أنت ، ولا يتبناه إلا أنت ، ولا يخلص له إلا أنت . ومن الجميل ، وغاية النبل ، والصدق الصادق مع النفس ، وقوة الإرادة ، وعمق الإخلاص ؛ أن تُوقِفَ الحوار إذا وجدْت نفسك قد تغير مسارها ودخلتْ في مسارب اللجج والخصام ، ومدخولات النوايا . وهذا ما تيسر تدوينه والله وليُّ التوفيق ، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم . وكتبه أفقر خلق الله إلى عفوه أبوجهاد سمير الجزائري بمدينة بلعباس في 22 ربيع الثاني 1430 17 أفريل2009 | |
| |
السبائك الذهبية في آداب البحث والمناظرة العلمية
الشيخ مصطفى- رئيس مجلس إدارة المنتدى
- عدد المساهمات : 1147
- مساهمة رقم 1