الحلقة
الثانية و الأخيرة
معرفـة
دلالات الألفـاظ الشرعيـة
القاعدة
الأولى : الواجب حمل الألفاظ
الواردة في الكتاب
والسنة على
الحقيقة الشرعية
:
بعض الألفاظ
الواردة في الكتاب والسنة
تختلف دلالتها عن دلالتها في اللغة العربية ، والواجب حملها على الحقيقة الشرعية فالوضوء في
الشرع يطلق على الصفة المعروفة ، وأما في اللغة فيطلق على غسل اليدين ، فالواجب حمل (
الوضوء ) الوارد في الكتاب والسنة على الحقيقة الشرعية لا اللغوية .
يقول شيخ
الإسلام كما في مجموع
الفتاوى ( 7/286 ) : ومما ينبغي أن يعلم أن الألفاظ الموجودة في
القرآن والحديث إذا لم يحتج في ذلك إلى
الاستدلال بأقوال أهلrعرف تفسيرها
وما أريد بها من جهة النبي اللغة ولا غيرهم .
القاعدة
الثانية : النفي الوارد
في الكتاب والسنة المراد به نفي الكمال الواجب وليس نفي الكمال المستحب
قال ابن
تيمية في القواعد أمر ذلك المسيء في
صلاته بأن يعيد الصلاة ، وأمر الله ورسولهrالنورانية :
فالنبي إذا أطلق كان مقتضاه
الوجوب ، وأمره إذا قام إلى الصلاة بالطمأنينة ، كما أمره بالركوع والسجود ،
وأمره المطلق على الإيجاب ، وأيضا قال له (( فإنك لم تصل )) فنفى أن يكون عمله الأول
صلاة ، والعمل لا يكون منفياً إلا إذا كان انتفى شيء من واجباته .
القاعدة
الثالثة : دلالة الاقتران
تكون قوية إذا جمع المقترنين
لفظ اشتركا
في إطلاقه وافتراقا في
تفصيله
قال ابن
القيم في بدائع الفوائد
( 2/356 ) : دلالة الاقتران تظهر قوتها في موطن وضعفها في موطن وتساوي
الأمرين في موطن ، فإذا
جمع المقترنين لفظ اشتركا في إطلاقه وافترقا في تفصيله قويت الدلالة (( الفطرة خمس
)) وفي مسلم : (( عشر من الفطرة )) ثم فصلها ، فإذا جعلتrكقوله الفطرة
بمعنى السنة والسنة هي المقابلة للواجب ضعف الاستدلال بالحديث على وجوب الختان ، لكن تلك
المقدمات مصنوعتان ، فليست الفطرة بمرادفة للسنة ، ولا السنة في هي المقابلة
للواجب ، بل ذلك اصطلاح وضعي لا يحمل عليه كلام الشارع ،rلفظ النبي :
(( حق على كل مسلم أن يغتسل يوم الجمعة ويستاك ويمس من طيب بيتهrومن ذلك
قوله )) فقد اشترك الثلاثة في
إطلاق الحق عليه ، إذا كان حقا مستحبا في اثنين منها كان في الثالث مستحبا .. وأما الموضع الذي يظهر ضعف
دلالة الاقتران فيه فعند تعدد الجمل : (( لا يبولن أحدكم في الماء
الدائم ولاrواستقلال كل واحدة منهما بنفسها كقوله يغتسل فيه
من الجنابة )) وقوله : (( لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده )) فالتعرض لدلالة
الاقتران ههنا في غاية الفساد ، فإن كل جملة مفيدة لمعناها وحكمها وسببها وغايتها منفردة
عن الجملة الأخرى ، واشتراكهما في مجرد العطف لا يوجب اشتراكهما فيما وراء ذلك .. ، وأما موطن التساوي
فحيث كان العطف ظاهراً في التسوية وقصد المتكلم ظاهراً في الفرق فيتعارض ظاهر
اللفظ وظاهر القصد ، فإن غلب ظهور أحدهما اعتبر وإلا طلب الترجيح ، والله أعلم .
انتهى .
الأمــــر
القاعدة
الأولى : الأمر يدل على
الوجوب
الأمر
المجرد يدل على الوجوب إلا
لقرينة صارفة ، ودليل الوجوب قوله تعالى : { فليحْذَرِ الذينَ
يُخالِفُونِ عِنْ أمْرِهِ أنْ
تُصِيبَهُم فِتنِةٌ أوْ يُصِيبَهُم عَذابٌ ألِيمٌ } ( النور :63 ) .
فلو لم يكن
الأمر للوجوب لما ترتب
على تركه فتنة أو عذاب أليم . وقال عليه الصلاة والسلام : (( لو لا
أن أشق على أمتي لأمرتهم
بالسواك مع كل صلاة )) أخرجه البخاري ( 887 ) ومسلم ( 3/142 ) .
فلم يأمرهم
حتى لا يشق عليهم ، قال الخطيب
في الفقيه والمتفقه ( 1/68 ) فدل على أنه لو أمر لوجب وشق . انتهى .
والقرائن
التي تصرف الأمر من الوجوب إلى
الاستحباب أربعة قرائن هي
:
1 ـ أن يكون
الدليل الذي فيه الأمر ذكر
معه تعليل يدل على أن ذلك الأمر للاستحباب ، مثاله : حديث رافع بن خديج قال : ((
أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر
))rأن النبي .
أخرجه الترمذي
( 154 ) والنسائي
( 1/272 ) وهو صحيح
.
فالتعليل
بأن الإسفار أعظم للأجر
، يدل على أن التغليس فيه
أجر أيضا لكن دون الإسفار ، فيكون الأمر للاستحباب
.
2 ـ أن يأتي
دليل آخر يدل على أن الأمر في
الدليل الأول ليس للوجوب ، مثاله : حديث أبي تميمة الهجيمي عن رجل من قومه قال : ((
إذا لقي الرجل أخاه المسلم فليقل : السلام عليكمrمن الصحابة
أن النبي ورحمة الله وبركاته )) .
أخرجه
الترمذي ( 2722 ) وصححه ،
وصححه أيضا الألباني في الصحيحة ( 1403 ) فالأمر هنا بزيادة (
ورحمة الله وبركاته
) فقال : ( السلام عليكم )rليس للوجوب لحديث عمران
بن حصين قال : جاء رجل إلى النبي (( عشرٌ )) أي عشر حسناتrفرد عليه ثم
جلس فقال النبي .
أخرجه أبو
داود ( 5195 ) والترمذي
( 2690 ) وهو صحيح
.
rففي هذا الحديث لم يأمر
النبي الرجل بزيادة ( ورحمة
الله وبركاته ) على قوله : ( السلام عليكم ) فدل هذا على أن الأمر في الحديث ليس
للوجوب .
تركr3 ـ أن يأتي
من فعل النبي قال : (( البسوا من
ثيابكم البياضrذلك الأمر ، مثاله حديث ابن عباس أن رسول الله ، فإنها من خير ثيابكم ، وكفنوا فيها موتاكم )) .
أخرجه أبو
داود ( 3878 ) والترمذي
( 994 ) وهو صحيح
.
ففي هذا
الحديث الأمر بلبس الثياب ترك هذا الأمر فعن أبي
رمثة التميمي قال : رأيتrالبيض ، وقد
جاء من فعل النبي وعليه ثوبان أخضران .rرسول الله
أخرجه أبو
داود ( 4095 ) والترمذي
( 2813 ) .
4 ـ أن يأتي
عن الصحابي الذي روى الحديث ما
يدل على أن ذلك الأمر ليس للوجوب ، فالراوي أدرى بما يرويه ، وأعلم بفقه ما يحدث به من الأحاديث .
وهذه
القرائن الأربعة كما أنها
تكون صارفة للأمر من الوجوب إلى الاستحباب ، كذلك تكون صارفة للنهي
من التحريم إلى الكراهة .
القاعدة
الثانية : الأمر يقتضي
الفور
الأمر
المجرد عن القرائن يدل على
الفور وسرعة الامتثال ، لقوله تعالى { وسارِعُوا إلى مَغْفِرِةٍ
مِنْ رَبِّكُمْ
} ( آل عمران : 133
] .
ويدل على
هذا أيضا ما جاء في قصة لما فرغ من قضية الكتاب
قال لأصحابه : (( قوموا فانحروا ثمrالحديبية أن
النبي احلقوا )) فو الله ما
قام منهم رجل واحد حتى قال ذلك ثلاث مرات ، فلما لم يقم منهم من ذلك كما
في الحديث المتفق عليهrأحد غضب
النبي .
قال ابن
القيم في زاد المعاد
( 3/307 ) بعد أن ذكر جملة من فوائد الحديث : ومنها : أن الأمر المطلق
على الفور وإلا لم يغضب
لتأخيرهم الامتثال عن وقت الأمر . انتهى
.
القاعدة
الثالثة : الأمر المطلق
يقتضي التكرار
الأمر
المطلق يقتضي التكرار في
عرف الشرع بخلاف اللغة ، وقد وضح هذا الأمر ابن القيم توضيحاً
تاماً فقال في جلاء الأفهام (
203 ) : قوله تعالى : { آمنوا بالله ورسوله } ( النساء : 136 ) وقوله: { وأطيعوا الله وأطيعوا
الرسول } (المائدة : 92 ) { واتقوا الله } ( البقرة : 189) وقوله : { وأوفوا الكيل
والميزان بالقسط } (لأنعام : 152 ) وقولـه : { وأن هذا صراطي مستقيما }(الأنعام : 153) وذلك في القرآن
أكثر من أن يحصر ، وإذا كانت أوامر الله ورسوله على التكرار حيث وردت إلا في النادر
علم أن هذا عرف خطاب الله ورسوله للأمة ، والأمر وإن لم يكن في لفظه المجرد ما
يؤذن بتكرار ولا فور فلا ريب أنه في عرف خطاب الشارع للتكرار ، فلا يحمل كلامه إلا
على عرفه والمـألوف من خطابه ، وإن لم يكن ذلك مفهوماً من أصل الوضع في اللغة .
انتهى .
قلت :
والأوامر المقيدة بشرط
تُكَرَّر بِتَكَرُّر الشرط ، كقوله تعالى : {ياأيُّهَا الذِينَ
آمَنُوا إذا قُمْتُمْ
إلى الصَّلاةِ فاغْسِلُـوا وُجُوهَكُـمْ وأيْدِيَكُمْ }[ المائدة : 6 ] فالوضوء مقيد بالصلاة
فبتكرار الصلاة يتكرر الوضوء
.
القاعدة
الرابعة : الشيء الذي جاء
الأمر بفعله على صفة معينة ولم يأت أمر بفعله ابتداء ، فإن تلك
الصفة تكون واجبة وابتداء ذلك
الفعل ليس بواجب
هناك بعض
الأوامر لم يأت أمر بابتداء
فعلها ولكن جاء الأمر بفعلها بصفة معينة ، فإن ذلك الأمر ابتداءه ليس بواجب ، ولكن إذا ابتدأه المسلم فإنه يجب أن يأتي به على الصفة التي ورد
الأمر بفعلها على قال : (( إذاrتلك الصفة ،
لأن الأمر يدل على الوجوب ، مثاله : حديث جابر أن النبي استجمر أحدكم فليوتر ))
. أخرجه مسلم ( 213
) .
فالاستجمار
ليس بواجب إذ يجوز الاستنجاء
بالماء بدل الاستجمار بالحجارة ولكن من أراد أن يستجمر فإنه يجب عليه أن يكون استجماره وتراً ،
للأمر بهذه الصفة على من أراد الاستجمار
.
القاعدة
الخامسة : قول الصحابي
( أمرنا بكذا ) يدل على وجوب المأمور به
قول الصحابي
: ( أمرنا بكذا ) أو بكذا ) يدل على وجوب
المأمور به لأن الصحابي أفهم وأعلمr( أمرنا رسول
الله rبالمراد لما
يرويه ، وذهب بعض المتكلمين إلى أنه لا يكون حجة حتى ينقل لفظ الرسول ، لاحتمال أن يكون سمع صيغة ظنها أمرا أو
نهيا وليست كذلك في نفس الأمر
.
وقد تعقب
هذا القول الصنعاني فقال
في توضيح الأفكار ( 1/271 ) : إن عملنا بمثل هذا الاحتمال لم تقبل
إلا الرواية باللفظ
النبوي وبطلت الرواية بالمعنى ، ولا شك أن الظاهر من حال الصحابي مع عدالته ومعرفته الأوضاع
اللغوية أنه لا يطلق ذلك إلا فيما تحقق أنه أمر أو نهي . انتهى .
القاعدة
السادسة : الأمر بعد الحظر يفيد
ما كان عليه ذلك الشيء قبل ورود الأمر
صيغة الأمر
إذا وردت بعد النهي فإنها تفيد
ما كان عليه ذلك الشيء الذي ورد الأمر به قبل النهي ، فإن كان للوجوب فهو للوجوب ، وإن كان
للاستحباب فهو للاستحباب ، كقوله تعالى : {وإذا حللتم فاصطادوا } [ النساء : 176 ] ففي هذه الآية
الأمر بالصيد بعد الإحلال من الإحرام ، والصيد أصله مباح فيرجع إلى ما كان عليه قبل
الإحرام وهو الإباحة قال ابن كثير في تفسيره ( 2/6،7 ) عند قوله تعالى : {وإذا حللتم
فاصطادوا } [ النساء : 176
]
وهذا أمر
بعد الحظر ، والصحيح الذي يثبت
على السبر أنه يرد الحكم إلى ما كان عليه قبل النهي : فإن كان واجبا ردَّه واجبا ، وإن
مستحبا فمستحب ، أو مباحاً فمباح ، ومن قال إنه على الوجوب ينتقض بآيات كثيرة ، ومن قال
إنه للإباحة يرد عليه آيات أخرى ، والذي ينتظم الأدلة كلها هذا الذي ذكرناه كما
اختاره بعض علماء الأصول والله أعلم . انتهى
.
القاعدة
السابعة : الخبر بمعنى
الأمر يدل على الوجوب
الخبر الذي
يكون بمعنى الأمر يترتب عليه
ما يترتب على الأمر الصريح وهو الوجوب ، وذلك لأن العبرة بالمعنى والمقصود ، وليس العبرة
باللفظ فقط ، واللفظ الذي يدل على الوجوب لا يكون بصيغة
( الأمر ) فقط ، فإن هناك ألفاظ تدل على الوجوب وليست بصيغة ( الأمر
) كلفظه ( حق ) ولفظه ( كتب
) وغير ذلك من ألفاظ
.
rعن أم المؤمنين عائشة
عن النبي : (( من مات وعليه صيام صام
عنه وليه )) .
أخرجه
البخاري ( 1952 ) ومسلم
( 1147 ) .
قال الألباني(شريط
19 سلسلة الهدى و النور) ما
حاصله : أن هذا خبر بمعنى الأمر يدلُّ على وجوب الصيام على الولي للميت .
القاعدة
الخامسة : إذا صرف الأمر
من الوجوب فإنه يحمل على الاستحباب وليس على الإباحة
الأمر إذا
صرف من الوجوب فإنه يحمل على
الاستحباب ولا يحمل على الاباحة ، لأن الاستحباب أقرب درجة إلى الوجوب من الإباحة ، فيحمل على
الأقرب ولا يحمل على الأبعد وهو الإباحة إلا بقرينه ، فإن جاءت قرينة تدل على أن ذلك
الأمر للإباحة حمل على الإباحة ، وعلى هذا مشى الأئمة رحمهم الله فإنهم يقولون في
الأمر المصروف عن الوجوب هذا أمر استحباب أو هذا أمر ندب ، أو هذا أمر إرشاد وتأكيد ،
ولا يقولون هذا أمر إباحة إلا إذا أتت قرينة تدل على ذلك
.
القاعدة
التاسعة : أمر الصحابي لا
يحمل على الوجوب
إذا أمر
الصحابي بأمر فلا يحمل ورد ما يدل على وجوبه ،r ، فأمر النبي rالوجوب ،
لأن أمر الصحابي ليس كأمر النبي وأمر الصحابي لم يأت ما
يدل على وجوبه .
القاعدة
العاشرة : العدد الذي
يحصل به تطبيق الأمر هوالمرة الواحدة
الأمر إذا
أطلق بغير عدد فإن أقل
ما يحصل به تطبيق ذلك الأمر هو ( المرة الواحدة فقط ) كقوله تعالى
: { فاغْسِلُوا وجُوهَكُمْ }
ففي هذه
الآية وجوب غسل الوجه في
الوضوء ويحصل هذا الوجوب بغسل الوجه مرة واحدة فقط ، لأن هذا هو
الأصل في تطبيق الأمر الذي
يحدد بعدد ، قال الشافعي في الرسالة ( 164 ) : فكان ظاهر قول الله : { فاغسلوا وجوهكم } [
المائدة : 6 ] أقل ما وقع عليه اسم الغسل وذلك مرة واحتمل أكثر ، فسن رسول الله الوضوء مرة فوافق ذلك ظاهر القرآن ، وذلك أقل ما
يقع عليه اسم الغسل .
انتهى .
القاعدة
الحادية عشر : القضاء
يكون بأمر جديد ولا يكون
بالأمر بالأداء
القضاء
يحتاج إلى أمر جديد غير
( أمر الأداء ) وذلك لأن الشارع لما جعل لتلك العبادة وقتاً محدداً
وجب فعلها في ذلك الوقت ،
فلما خرج ذلك الوقت وكان المكلف غير مفرط لم يؤاخذ وسقط عنه ذلك الواجب ، فإن كان مفرطاً فإنه
يؤاخذ ولا ينفعه فعل العبادة بعد خروج وقتها ، ما دام أنه كان مفرطاً .
مثاله :
زكاة الفطر وقتها قبل
صلاة العيد فإذا خرج وقتها صارت قضاء والقضاء يحتاج إلى خطاب جديد
من الشارع يدل على ذلك ولا
دليل على أن زكاة الفطر تقضى إذا فات وقتها ، سواء كان تركها عن تفريط أو عن جهل ونسيان .
القاعدة
الثانية عشر : الأمر الوارد عقب
سؤال يكون بحسب قصد السائل
الأمر
الوارد عقب سؤال يأتي على
حالتين
:
الحالة
الأولى : أن يكون الأمر
ورد عقب سؤال عن حكم ذلك الشيء ، فيكون الأمر بحسب مقصود السائل ،
فإذا كان قصد السائل عن
الإباحة وعدمها فالأمر ليس للوجوب وإنما هو لبيان المشروعية ، وإن كان قصد السائل الوجوب
وعدمه فالأمر للوجوب ، مثاله حديث البراء بن عازب : سئل رسول عن الوضوء
من لحوم الإبـل فقـال : (( توضؤا منها )) وسئل عن لحوم الغنم ،rالله فقال : ((
لا توضئوا منها )) وسئل عن الصلاة في مبارك الإبل ، فقال : (( لا تصلوا في مبارك الإبل فإنها
من الشياطين )) وسئل عن الصلاة في مرابض الغنم فقال : (( صلوا فيها فإنها بركة )) .
أخرجه أبو داود ( 184 ) وهو صحيح
.
فالأمر
بالوضوء من لحوم الإبل أمر
إيجاب ، لأن قصد السـائل هو ( هل لحم الإبل ناقض للوضوء أم لا ؟ )
وما كان ناقضاً للوضوء فيجب
الوضوء منه ، فيكون الأمر الوارد في الجواب يفيد الوجوب وأما الأمر بالصلاة في مرابض الغنم
فلا يفيد الوجوب ، لأن قصد السائل هو ( هل تشرع الصلاة في مرابض الغنم أم لا ؟ )
فيكون الأمر الوارد في الجواب يفيد المشروعية ، ولا يفيد الوجوب
.
الحالة
الثانية : أن يكون الأمر
ورد عقب سؤال عن الكيفية فإن كان أصل الكيفية واجب ، فيكون الأمر
للوجوب ، وإن كان أصل الكيفية
غير واجب فالأمر ليس على الوجوب ، مثال الأول : ( وهو ما كان أصله واجب ) حديث كعب بن عجرة أنه
قال : قلنا يا رسول الله قد علمنا كيف نسلم عليك ، فكيف نصلي عليك ؟ قال : (( قولوا : اللهم صَلِّ على
محمد وعلى آل محمد .. )) . أخرجه في التشهد واجبة ،
فيكون الأمر هنا للوجوبrالبخاري (
6357 ) فالصلاة على النبي .
ومثال
الثاني : ( وهو ما كان أصله قال : ( إن جبريل أتاني
فقال : إن ربك يأمركrغير واجب )
حديث عائشة أن رسول الله أن تأتي أهل البقيع
فتستغفر لهم ) قالت : قلت : كيف أقول لهم يا رسول الله ؟ قال : (( قولي : السلام على أهل
الديار من المؤمنين والمسلمين ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين ، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون ))
. أخرجه مسلم ( 974
) .
فأصل الدعاء
عند زيارة القبر ليس فيه دليل
يدل على وجوبه ، فيكون الأمر هنا ليس للوجوب
الــنــــهــي
القاعدة
الأولى : النهي يدل على
التحريم
الأصل في
النهي التحريم إلا : (( ما نهيتكم عنه فاجتنبوه ))rلقرينة ، والدليل على
ذلك قوله .
أخرجه مسلم
( 1337 ) .
قال الشافعي
كما في الفقيه أن كل ما نهى عنه فهو
محرم حتى تأتيrوالمتفقه ( 1/69 ) : أصل النهي من رسول الله عليه دلالة
تدل على أنه عنى به غير معنى
التحريم.
قلت : وفي
كلام الشافعي رحمه الله
تنبيه دقيق
إلى أن قول جمهور العلماء لا يصلح أن يكون صارفاً للنهي حتى يجمعوا
على ذلك ، فما
يوجد في بعض المصنفات من صرف للنهي عن التحريم بقول أكثر العلماء ليس بصواب ، وأيضا استبعاد
العقل أن يكون ذلك النهي للتحريم لا يصلح هذا صارفاً بل لا بد من نص من السنة يدل
على ذلك ، وكذلك الأوامر الشرعية هي مثل النهي تماماً
.
والتفريق
بين النهي الوارد في العبادات
والمعاملات فيفيد التحريم ، والنهي الوارد في الآداب فلا يفيد التحريم تفريق ليس عليه دليل ،
بل الأدلة الواردة عامة في اجتناب كل نهي من غير تفريق فيبقى العمل بها على عمومها
من غير تفريق .
القاعدة
الثانية : النهي يدل على
الفساد
النهي يدل
على فساد المنهي وبطلانه
وعلى هذا كان الصحابة رضوان الله عليهم ، فقد ثبت عن عمر بن الخطاب أنه رد نكاح رجل تزوج امرأة
وهو محرم . أخرجه البيهقي في الكبرى ( 7/441
)
وثبت عن
معاوية أنه فرق بين الرجل
وامرأته في نكاح الشغار . أخرجه أبو داود ( 2075 )
قلت : وهذه
المسألة تحتاج إلى بيان أمور :
ـ الأمر الأول :
ما نهي عنه
على الدوام وتعلق في بعض الأوقات
بفعل مأمور به ، فهذا لا يدخل في قاعدة ( النهي يدل على الفساد ) ويكون الفعل المأمور صحيحا ،
ومثاله : لبس الحرير منهي عنه والصلاة مأمور بها ، فلو صلى شخص وعليه ثوب حرير لم
تبطل صلاته ، لأن النهي عن لبس الحرير ليس متعلق بالصلاة ، بل هو نهي على الدوام
والإطلاق ، لكن لو جاء النهي في الشرع عن الصلاة في الثوب الحرير ، لبطلت صلاة من
صلى في ثوب حرير
.
ـ الأمر
الثاني :
لا فرق في
فساد المنهي عنه بين أن
يكون لذاته أو لغيره ، وذهب الحنفية والشافعية إلى التفريق بين أن
يكون المنهي عنه لذاته فهو
فاسد وبين أن يكون لغيره فهو غير فاسد ، وقد ردَّ شيخ الإسلام على هذا التقسيم فقال كما في
مجموع الفتاوى ( 29/288 ) : فالجمع بين الأختين نهي عنه لإفضائه إلى قطيعة الرحم ، والقطيعة أمر خارج عن
النكاح ، والخمر والميسر حرما[/font:9
الثانية و الأخيرة
معرفـة
دلالات الألفـاظ الشرعيـة
القاعدة
الأولى : الواجب حمل الألفاظ
الواردة في الكتاب
والسنة على
الحقيقة الشرعية
:
بعض الألفاظ
الواردة في الكتاب والسنة
تختلف دلالتها عن دلالتها في اللغة العربية ، والواجب حملها على الحقيقة الشرعية فالوضوء في
الشرع يطلق على الصفة المعروفة ، وأما في اللغة فيطلق على غسل اليدين ، فالواجب حمل (
الوضوء ) الوارد في الكتاب والسنة على الحقيقة الشرعية لا اللغوية .
يقول شيخ
الإسلام كما في مجموع
الفتاوى ( 7/286 ) : ومما ينبغي أن يعلم أن الألفاظ الموجودة في
القرآن والحديث إذا لم يحتج في ذلك إلى
الاستدلال بأقوال أهلrعرف تفسيرها
وما أريد بها من جهة النبي اللغة ولا غيرهم .
القاعدة
الثانية : النفي الوارد
في الكتاب والسنة المراد به نفي الكمال الواجب وليس نفي الكمال المستحب
قال ابن
تيمية في القواعد أمر ذلك المسيء في
صلاته بأن يعيد الصلاة ، وأمر الله ورسولهrالنورانية :
فالنبي إذا أطلق كان مقتضاه
الوجوب ، وأمره إذا قام إلى الصلاة بالطمأنينة ، كما أمره بالركوع والسجود ،
وأمره المطلق على الإيجاب ، وأيضا قال له (( فإنك لم تصل )) فنفى أن يكون عمله الأول
صلاة ، والعمل لا يكون منفياً إلا إذا كان انتفى شيء من واجباته .
القاعدة
الثالثة : دلالة الاقتران
تكون قوية إذا جمع المقترنين
لفظ اشتركا
في إطلاقه وافتراقا في
تفصيله
قال ابن
القيم في بدائع الفوائد
( 2/356 ) : دلالة الاقتران تظهر قوتها في موطن وضعفها في موطن وتساوي
الأمرين في موطن ، فإذا
جمع المقترنين لفظ اشتركا في إطلاقه وافترقا في تفصيله قويت الدلالة (( الفطرة خمس
)) وفي مسلم : (( عشر من الفطرة )) ثم فصلها ، فإذا جعلتrكقوله الفطرة
بمعنى السنة والسنة هي المقابلة للواجب ضعف الاستدلال بالحديث على وجوب الختان ، لكن تلك
المقدمات مصنوعتان ، فليست الفطرة بمرادفة للسنة ، ولا السنة في هي المقابلة
للواجب ، بل ذلك اصطلاح وضعي لا يحمل عليه كلام الشارع ،rلفظ النبي :
(( حق على كل مسلم أن يغتسل يوم الجمعة ويستاك ويمس من طيب بيتهrومن ذلك
قوله )) فقد اشترك الثلاثة في
إطلاق الحق عليه ، إذا كان حقا مستحبا في اثنين منها كان في الثالث مستحبا .. وأما الموضع الذي يظهر ضعف
دلالة الاقتران فيه فعند تعدد الجمل : (( لا يبولن أحدكم في الماء
الدائم ولاrواستقلال كل واحدة منهما بنفسها كقوله يغتسل فيه
من الجنابة )) وقوله : (( لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده )) فالتعرض لدلالة
الاقتران ههنا في غاية الفساد ، فإن كل جملة مفيدة لمعناها وحكمها وسببها وغايتها منفردة
عن الجملة الأخرى ، واشتراكهما في مجرد العطف لا يوجب اشتراكهما فيما وراء ذلك .. ، وأما موطن التساوي
فحيث كان العطف ظاهراً في التسوية وقصد المتكلم ظاهراً في الفرق فيتعارض ظاهر
اللفظ وظاهر القصد ، فإن غلب ظهور أحدهما اعتبر وإلا طلب الترجيح ، والله أعلم .
انتهى .
الأمــــر
القاعدة
الأولى : الأمر يدل على
الوجوب
الأمر
المجرد يدل على الوجوب إلا
لقرينة صارفة ، ودليل الوجوب قوله تعالى : { فليحْذَرِ الذينَ
يُخالِفُونِ عِنْ أمْرِهِ أنْ
تُصِيبَهُم فِتنِةٌ أوْ يُصِيبَهُم عَذابٌ ألِيمٌ } ( النور :63 ) .
فلو لم يكن
الأمر للوجوب لما ترتب
على تركه فتنة أو عذاب أليم . وقال عليه الصلاة والسلام : (( لو لا
أن أشق على أمتي لأمرتهم
بالسواك مع كل صلاة )) أخرجه البخاري ( 887 ) ومسلم ( 3/142 ) .
فلم يأمرهم
حتى لا يشق عليهم ، قال الخطيب
في الفقيه والمتفقه ( 1/68 ) فدل على أنه لو أمر لوجب وشق . انتهى .
والقرائن
التي تصرف الأمر من الوجوب إلى
الاستحباب أربعة قرائن هي
:
1 ـ أن يكون
الدليل الذي فيه الأمر ذكر
معه تعليل يدل على أن ذلك الأمر للاستحباب ، مثاله : حديث رافع بن خديج قال : ((
أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر
))rأن النبي .
أخرجه الترمذي
( 154 ) والنسائي
( 1/272 ) وهو صحيح
.
فالتعليل
بأن الإسفار أعظم للأجر
، يدل على أن التغليس فيه
أجر أيضا لكن دون الإسفار ، فيكون الأمر للاستحباب
.
2 ـ أن يأتي
دليل آخر يدل على أن الأمر في
الدليل الأول ليس للوجوب ، مثاله : حديث أبي تميمة الهجيمي عن رجل من قومه قال : ((
إذا لقي الرجل أخاه المسلم فليقل : السلام عليكمrمن الصحابة
أن النبي ورحمة الله وبركاته )) .
أخرجه
الترمذي ( 2722 ) وصححه ،
وصححه أيضا الألباني في الصحيحة ( 1403 ) فالأمر هنا بزيادة (
ورحمة الله وبركاته
) فقال : ( السلام عليكم )rليس للوجوب لحديث عمران
بن حصين قال : جاء رجل إلى النبي (( عشرٌ )) أي عشر حسناتrفرد عليه ثم
جلس فقال النبي .
أخرجه أبو
داود ( 5195 ) والترمذي
( 2690 ) وهو صحيح
.
rففي هذا الحديث لم يأمر
النبي الرجل بزيادة ( ورحمة
الله وبركاته ) على قوله : ( السلام عليكم ) فدل هذا على أن الأمر في الحديث ليس
للوجوب .
تركr3 ـ أن يأتي
من فعل النبي قال : (( البسوا من
ثيابكم البياضrذلك الأمر ، مثاله حديث ابن عباس أن رسول الله ، فإنها من خير ثيابكم ، وكفنوا فيها موتاكم )) .
أخرجه أبو
داود ( 3878 ) والترمذي
( 994 ) وهو صحيح
.
ففي هذا
الحديث الأمر بلبس الثياب ترك هذا الأمر فعن أبي
رمثة التميمي قال : رأيتrالبيض ، وقد
جاء من فعل النبي وعليه ثوبان أخضران .rرسول الله
أخرجه أبو
داود ( 4095 ) والترمذي
( 2813 ) .
4 ـ أن يأتي
عن الصحابي الذي روى الحديث ما
يدل على أن ذلك الأمر ليس للوجوب ، فالراوي أدرى بما يرويه ، وأعلم بفقه ما يحدث به من الأحاديث .
وهذه
القرائن الأربعة كما أنها
تكون صارفة للأمر من الوجوب إلى الاستحباب ، كذلك تكون صارفة للنهي
من التحريم إلى الكراهة .
القاعدة
الثانية : الأمر يقتضي
الفور
الأمر
المجرد عن القرائن يدل على
الفور وسرعة الامتثال ، لقوله تعالى { وسارِعُوا إلى مَغْفِرِةٍ
مِنْ رَبِّكُمْ
} ( آل عمران : 133
] .
ويدل على
هذا أيضا ما جاء في قصة لما فرغ من قضية الكتاب
قال لأصحابه : (( قوموا فانحروا ثمrالحديبية أن
النبي احلقوا )) فو الله ما
قام منهم رجل واحد حتى قال ذلك ثلاث مرات ، فلما لم يقم منهم من ذلك كما
في الحديث المتفق عليهrأحد غضب
النبي .
قال ابن
القيم في زاد المعاد
( 3/307 ) بعد أن ذكر جملة من فوائد الحديث : ومنها : أن الأمر المطلق
على الفور وإلا لم يغضب
لتأخيرهم الامتثال عن وقت الأمر . انتهى
.
القاعدة
الثالثة : الأمر المطلق
يقتضي التكرار
الأمر
المطلق يقتضي التكرار في
عرف الشرع بخلاف اللغة ، وقد وضح هذا الأمر ابن القيم توضيحاً
تاماً فقال في جلاء الأفهام (
203 ) : قوله تعالى : { آمنوا بالله ورسوله } ( النساء : 136 ) وقوله: { وأطيعوا الله وأطيعوا
الرسول } (المائدة : 92 ) { واتقوا الله } ( البقرة : 189) وقوله : { وأوفوا الكيل
والميزان بالقسط } (لأنعام : 152 ) وقولـه : { وأن هذا صراطي مستقيما }(الأنعام : 153) وذلك في القرآن
أكثر من أن يحصر ، وإذا كانت أوامر الله ورسوله على التكرار حيث وردت إلا في النادر
علم أن هذا عرف خطاب الله ورسوله للأمة ، والأمر وإن لم يكن في لفظه المجرد ما
يؤذن بتكرار ولا فور فلا ريب أنه في عرف خطاب الشارع للتكرار ، فلا يحمل كلامه إلا
على عرفه والمـألوف من خطابه ، وإن لم يكن ذلك مفهوماً من أصل الوضع في اللغة .
انتهى .
قلت :
والأوامر المقيدة بشرط
تُكَرَّر بِتَكَرُّر الشرط ، كقوله تعالى : {ياأيُّهَا الذِينَ
آمَنُوا إذا قُمْتُمْ
إلى الصَّلاةِ فاغْسِلُـوا وُجُوهَكُـمْ وأيْدِيَكُمْ }[ المائدة : 6 ] فالوضوء مقيد بالصلاة
فبتكرار الصلاة يتكرر الوضوء
.
القاعدة
الرابعة : الشيء الذي جاء
الأمر بفعله على صفة معينة ولم يأت أمر بفعله ابتداء ، فإن تلك
الصفة تكون واجبة وابتداء ذلك
الفعل ليس بواجب
هناك بعض
الأوامر لم يأت أمر بابتداء
فعلها ولكن جاء الأمر بفعلها بصفة معينة ، فإن ذلك الأمر ابتداءه ليس بواجب ، ولكن إذا ابتدأه المسلم فإنه يجب أن يأتي به على الصفة التي ورد
الأمر بفعلها على قال : (( إذاrتلك الصفة ،
لأن الأمر يدل على الوجوب ، مثاله : حديث جابر أن النبي استجمر أحدكم فليوتر ))
. أخرجه مسلم ( 213
) .
فالاستجمار
ليس بواجب إذ يجوز الاستنجاء
بالماء بدل الاستجمار بالحجارة ولكن من أراد أن يستجمر فإنه يجب عليه أن يكون استجماره وتراً ،
للأمر بهذه الصفة على من أراد الاستجمار
.
القاعدة
الخامسة : قول الصحابي
( أمرنا بكذا ) يدل على وجوب المأمور به
قول الصحابي
: ( أمرنا بكذا ) أو بكذا ) يدل على وجوب
المأمور به لأن الصحابي أفهم وأعلمr( أمرنا رسول
الله rبالمراد لما
يرويه ، وذهب بعض المتكلمين إلى أنه لا يكون حجة حتى ينقل لفظ الرسول ، لاحتمال أن يكون سمع صيغة ظنها أمرا أو
نهيا وليست كذلك في نفس الأمر
.
وقد تعقب
هذا القول الصنعاني فقال
في توضيح الأفكار ( 1/271 ) : إن عملنا بمثل هذا الاحتمال لم تقبل
إلا الرواية باللفظ
النبوي وبطلت الرواية بالمعنى ، ولا شك أن الظاهر من حال الصحابي مع عدالته ومعرفته الأوضاع
اللغوية أنه لا يطلق ذلك إلا فيما تحقق أنه أمر أو نهي . انتهى .
القاعدة
السادسة : الأمر بعد الحظر يفيد
ما كان عليه ذلك الشيء قبل ورود الأمر
صيغة الأمر
إذا وردت بعد النهي فإنها تفيد
ما كان عليه ذلك الشيء الذي ورد الأمر به قبل النهي ، فإن كان للوجوب فهو للوجوب ، وإن كان
للاستحباب فهو للاستحباب ، كقوله تعالى : {وإذا حللتم فاصطادوا } [ النساء : 176 ] ففي هذه الآية
الأمر بالصيد بعد الإحلال من الإحرام ، والصيد أصله مباح فيرجع إلى ما كان عليه قبل
الإحرام وهو الإباحة قال ابن كثير في تفسيره ( 2/6،7 ) عند قوله تعالى : {وإذا حللتم
فاصطادوا } [ النساء : 176
]
وهذا أمر
بعد الحظر ، والصحيح الذي يثبت
على السبر أنه يرد الحكم إلى ما كان عليه قبل النهي : فإن كان واجبا ردَّه واجبا ، وإن
مستحبا فمستحب ، أو مباحاً فمباح ، ومن قال إنه على الوجوب ينتقض بآيات كثيرة ، ومن قال
إنه للإباحة يرد عليه آيات أخرى ، والذي ينتظم الأدلة كلها هذا الذي ذكرناه كما
اختاره بعض علماء الأصول والله أعلم . انتهى
.
القاعدة
السابعة : الخبر بمعنى
الأمر يدل على الوجوب
الخبر الذي
يكون بمعنى الأمر يترتب عليه
ما يترتب على الأمر الصريح وهو الوجوب ، وذلك لأن العبرة بالمعنى والمقصود ، وليس العبرة
باللفظ فقط ، واللفظ الذي يدل على الوجوب لا يكون بصيغة
( الأمر ) فقط ، فإن هناك ألفاظ تدل على الوجوب وليست بصيغة ( الأمر
) كلفظه ( حق ) ولفظه ( كتب
) وغير ذلك من ألفاظ
.
rعن أم المؤمنين عائشة
عن النبي : (( من مات وعليه صيام صام
عنه وليه )) .
أخرجه
البخاري ( 1952 ) ومسلم
( 1147 ) .
قال الألباني(شريط
19 سلسلة الهدى و النور) ما
حاصله : أن هذا خبر بمعنى الأمر يدلُّ على وجوب الصيام على الولي للميت .
القاعدة
الخامسة : إذا صرف الأمر
من الوجوب فإنه يحمل على الاستحباب وليس على الإباحة
الأمر إذا
صرف من الوجوب فإنه يحمل على
الاستحباب ولا يحمل على الاباحة ، لأن الاستحباب أقرب درجة إلى الوجوب من الإباحة ، فيحمل على
الأقرب ولا يحمل على الأبعد وهو الإباحة إلا بقرينه ، فإن جاءت قرينة تدل على أن ذلك
الأمر للإباحة حمل على الإباحة ، وعلى هذا مشى الأئمة رحمهم الله فإنهم يقولون في
الأمر المصروف عن الوجوب هذا أمر استحباب أو هذا أمر ندب ، أو هذا أمر إرشاد وتأكيد ،
ولا يقولون هذا أمر إباحة إلا إذا أتت قرينة تدل على ذلك
.
القاعدة
التاسعة : أمر الصحابي لا
يحمل على الوجوب
إذا أمر
الصحابي بأمر فلا يحمل ورد ما يدل على وجوبه ،r ، فأمر النبي rالوجوب ،
لأن أمر الصحابي ليس كأمر النبي وأمر الصحابي لم يأت ما
يدل على وجوبه .
القاعدة
العاشرة : العدد الذي
يحصل به تطبيق الأمر هوالمرة الواحدة
الأمر إذا
أطلق بغير عدد فإن أقل
ما يحصل به تطبيق ذلك الأمر هو ( المرة الواحدة فقط ) كقوله تعالى
: { فاغْسِلُوا وجُوهَكُمْ }
ففي هذه
الآية وجوب غسل الوجه في
الوضوء ويحصل هذا الوجوب بغسل الوجه مرة واحدة فقط ، لأن هذا هو
الأصل في تطبيق الأمر الذي
يحدد بعدد ، قال الشافعي في الرسالة ( 164 ) : فكان ظاهر قول الله : { فاغسلوا وجوهكم } [
المائدة : 6 ] أقل ما وقع عليه اسم الغسل وذلك مرة واحتمل أكثر ، فسن رسول الله الوضوء مرة فوافق ذلك ظاهر القرآن ، وذلك أقل ما
يقع عليه اسم الغسل .
انتهى .
القاعدة
الحادية عشر : القضاء
يكون بأمر جديد ولا يكون
بالأمر بالأداء
القضاء
يحتاج إلى أمر جديد غير
( أمر الأداء ) وذلك لأن الشارع لما جعل لتلك العبادة وقتاً محدداً
وجب فعلها في ذلك الوقت ،
فلما خرج ذلك الوقت وكان المكلف غير مفرط لم يؤاخذ وسقط عنه ذلك الواجب ، فإن كان مفرطاً فإنه
يؤاخذ ولا ينفعه فعل العبادة بعد خروج وقتها ، ما دام أنه كان مفرطاً .
مثاله :
زكاة الفطر وقتها قبل
صلاة العيد فإذا خرج وقتها صارت قضاء والقضاء يحتاج إلى خطاب جديد
من الشارع يدل على ذلك ولا
دليل على أن زكاة الفطر تقضى إذا فات وقتها ، سواء كان تركها عن تفريط أو عن جهل ونسيان .
القاعدة
الثانية عشر : الأمر الوارد عقب
سؤال يكون بحسب قصد السائل
الأمر
الوارد عقب سؤال يأتي على
حالتين
:
الحالة
الأولى : أن يكون الأمر
ورد عقب سؤال عن حكم ذلك الشيء ، فيكون الأمر بحسب مقصود السائل ،
فإذا كان قصد السائل عن
الإباحة وعدمها فالأمر ليس للوجوب وإنما هو لبيان المشروعية ، وإن كان قصد السائل الوجوب
وعدمه فالأمر للوجوب ، مثاله حديث البراء بن عازب : سئل رسول عن الوضوء
من لحوم الإبـل فقـال : (( توضؤا منها )) وسئل عن لحوم الغنم ،rالله فقال : ((
لا توضئوا منها )) وسئل عن الصلاة في مبارك الإبل ، فقال : (( لا تصلوا في مبارك الإبل فإنها
من الشياطين )) وسئل عن الصلاة في مرابض الغنم فقال : (( صلوا فيها فإنها بركة )) .
أخرجه أبو داود ( 184 ) وهو صحيح
.
فالأمر
بالوضوء من لحوم الإبل أمر
إيجاب ، لأن قصد السـائل هو ( هل لحم الإبل ناقض للوضوء أم لا ؟ )
وما كان ناقضاً للوضوء فيجب
الوضوء منه ، فيكون الأمر الوارد في الجواب يفيد الوجوب وأما الأمر بالصلاة في مرابض الغنم
فلا يفيد الوجوب ، لأن قصد السائل هو ( هل تشرع الصلاة في مرابض الغنم أم لا ؟ )
فيكون الأمر الوارد في الجواب يفيد المشروعية ، ولا يفيد الوجوب
.
الحالة
الثانية : أن يكون الأمر
ورد عقب سؤال عن الكيفية فإن كان أصل الكيفية واجب ، فيكون الأمر
للوجوب ، وإن كان أصل الكيفية
غير واجب فالأمر ليس على الوجوب ، مثال الأول : ( وهو ما كان أصله واجب ) حديث كعب بن عجرة أنه
قال : قلنا يا رسول الله قد علمنا كيف نسلم عليك ، فكيف نصلي عليك ؟ قال : (( قولوا : اللهم صَلِّ على
محمد وعلى آل محمد .. )) . أخرجه في التشهد واجبة ،
فيكون الأمر هنا للوجوبrالبخاري (
6357 ) فالصلاة على النبي .
ومثال
الثاني : ( وهو ما كان أصله قال : ( إن جبريل أتاني
فقال : إن ربك يأمركrغير واجب )
حديث عائشة أن رسول الله أن تأتي أهل البقيع
فتستغفر لهم ) قالت : قلت : كيف أقول لهم يا رسول الله ؟ قال : (( قولي : السلام على أهل
الديار من المؤمنين والمسلمين ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين ، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون ))
. أخرجه مسلم ( 974
) .
فأصل الدعاء
عند زيارة القبر ليس فيه دليل
يدل على وجوبه ، فيكون الأمر هنا ليس للوجوب
الــنــــهــي
القاعدة
الأولى : النهي يدل على
التحريم
الأصل في
النهي التحريم إلا : (( ما نهيتكم عنه فاجتنبوه ))rلقرينة ، والدليل على
ذلك قوله .
أخرجه مسلم
( 1337 ) .
قال الشافعي
كما في الفقيه أن كل ما نهى عنه فهو
محرم حتى تأتيrوالمتفقه ( 1/69 ) : أصل النهي من رسول الله عليه دلالة
تدل على أنه عنى به غير معنى
التحريم.
قلت : وفي
كلام الشافعي رحمه الله
تنبيه دقيق
إلى أن قول جمهور العلماء لا يصلح أن يكون صارفاً للنهي حتى يجمعوا
على ذلك ، فما
يوجد في بعض المصنفات من صرف للنهي عن التحريم بقول أكثر العلماء ليس بصواب ، وأيضا استبعاد
العقل أن يكون ذلك النهي للتحريم لا يصلح هذا صارفاً بل لا بد من نص من السنة يدل
على ذلك ، وكذلك الأوامر الشرعية هي مثل النهي تماماً
.
والتفريق
بين النهي الوارد في العبادات
والمعاملات فيفيد التحريم ، والنهي الوارد في الآداب فلا يفيد التحريم تفريق ليس عليه دليل ،
بل الأدلة الواردة عامة في اجتناب كل نهي من غير تفريق فيبقى العمل بها على عمومها
من غير تفريق .
القاعدة
الثانية : النهي يدل على
الفساد
النهي يدل
على فساد المنهي وبطلانه
وعلى هذا كان الصحابة رضوان الله عليهم ، فقد ثبت عن عمر بن الخطاب أنه رد نكاح رجل تزوج امرأة
وهو محرم . أخرجه البيهقي في الكبرى ( 7/441
)
وثبت عن
معاوية أنه فرق بين الرجل
وامرأته في نكاح الشغار . أخرجه أبو داود ( 2075 )
قلت : وهذه
المسألة تحتاج إلى بيان أمور :
ـ الأمر الأول :
ما نهي عنه
على الدوام وتعلق في بعض الأوقات
بفعل مأمور به ، فهذا لا يدخل في قاعدة ( النهي يدل على الفساد ) ويكون الفعل المأمور صحيحا ،
ومثاله : لبس الحرير منهي عنه والصلاة مأمور بها ، فلو صلى شخص وعليه ثوب حرير لم
تبطل صلاته ، لأن النهي عن لبس الحرير ليس متعلق بالصلاة ، بل هو نهي على الدوام
والإطلاق ، لكن لو جاء النهي في الشرع عن الصلاة في الثوب الحرير ، لبطلت صلاة من
صلى في ثوب حرير
.
ـ الأمر
الثاني :
لا فرق في
فساد المنهي عنه بين أن
يكون لذاته أو لغيره ، وذهب الحنفية والشافعية إلى التفريق بين أن
يكون المنهي عنه لذاته فهو
فاسد وبين أن يكون لغيره فهو غير فاسد ، وقد ردَّ شيخ الإسلام على هذا التقسيم فقال كما في
مجموع الفتاوى ( 29/288 ) : فالجمع بين الأختين نهي عنه لإفضائه إلى قطيعة الرحم ، والقطيعة أمر خارج عن
النكاح ، والخمر والميسر حرما[/font:9